معدن التقوى – خطب الجمعة

202

الحمد لله ألزم المؤمنين كلمة التقوى وجعلهم أحق بها وأهلها وتفضل عليهم بلباس يواري سوآتهم ولباس التقوى أحمده و أشكره أن هدانا للبر والتقوى وأبعدنا عن ظاهر المعصية وأخفاها وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في الملك والربوبية والسلطان ، ولا ند له في الألوهية ، ولا في الكرم والإحسان ، ولا مثل له في كمال العدل ، والقسط والميزان ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، المبعوث إلى الإنس والجان . صل عليه وعلى آله وصحبه الكرام وسلم تسليما إلى يوم الدين وسلم .

أما بعد : فإني أوصيكم بتقوى الله العظيم ، و المراقبة له ، و اتخذوا التقوى و الورع زاداً . فإنكم في دار عما قريب تنقلب بأهلها ، و الله في عرضات القيامة و أهوالها . يسألكم عن الفتيل و النقير ( وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا ) (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ )

أيها الناس اعملوا لله رغبة ورهبة وتقوى فإنكم نبات نعمته وحصيد نقمته ولا تغرس لكم الآمال إلا ما تجتنيه الآجال وأقلوا الرغبة فيما يورث العطب فكل ما تزرعه العاجلة تقلعه الآجلة واحذروا الجديدين فهما يكران عليكم إن عقبى من بقى لحوق بمن مضي وعلى أثر من سلف يمضي من خلف (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) قال :  (التَّقْوَى هَاهُنَا، التَّقْوَى هَاهُنَا، التَّقْوَى هَاهُنَا، وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ) رواه مسلم ، وأحمد ، فمحل التقوى هو القلب، والتقوى تشمل كل أعمال الخير والبر والصلاح (1) فهي خير الوصايان وأفضل العطايا كل الخطب والمواعظ والكتب تُستفتح بالتقوى أغلب القرآن اتقوا الله (وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ)(2) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في قول الله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) (3)، قال : أنْ يُطاع فلا يُعصى ، ويُذكر فلا ينسى ، وأن يُشكر فلا يُكفر

أيها المؤمنون :إنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كَلاَمُ اللهِ ، وَأَوْثَقَ الْعُرَى كَلِمَةُ التَّقْوَى (4)،قال عمر رضي الله عنه لكعب الأحبار يا كعب حدثني عن التقوى فقال يا أمير المؤمنين هل أخذت طريقا ذا شوك قال نعم قال فما صنعت قال حذرت وشمرت قال فكذلك التقوى (5).

و روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه خرج إلى المقبرة فلما أشرف عليها قال : ياأهل القبور أخبرونا عنكم ، أو نخبركم . أما خبر من قبلنا : فالمال قد اقتسم ، و النساء قد تزوجن ، والمسكن قد سكنها قوم غيركم ، ثم قال : أما و الله لو استطاعو لقالوا : لم نر زاداً خيراً من التقوى (6) .وقال رضي الله عنه التقوى : هي الخوف من الجليل والعمل بالتنزيل والقناعة بالقليل والإستعداد ليوم الرحيل.

قال ابن تيمية : ” التقوى ” هي الاحتماء عما يضره بفعل ما ينفعه ؛ فإن الاحتماء عن الضار يستلزم استعمال النافع وأما استعمال النافع فقد يكون معه أيضا استعمال لضار فلا يكون صاحبه من المتقين . (7). وكان بشر الحافي طويل السهر يقول : أخاف أن يأتي أمر الله وأنا نائم .

أيها الأحبة : التقوى كما قال الغزالى رحمة الله : كنز عزيز، فلئن ظفرت به كم تجد فيه من جوهر شريف ، وخير كثير ، ورزق كريم ، وفوز كبير ، وغنم جسيم ، وملك عظيم ، فكأن خيرات الدنيا والأخرة جمعت فجعلت تحت هذه الخصلة الواحدة التى هى تقوى الله ، وتأمل ما فى القرأن من ذكرها فكم علق بها من خير وكم وعد عليها من خير وثواب وكم أضاف إليها من سعادة (8) .

فاهل التقوى هم ملوك الدنيا كما أنهم ملوك الآخرة وهم وأهل السعادة الحقيقية والشرف العظيم فى الدنيا والأخرة كما قال تعالى : ( وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى )(9) وقال تعالى : ( وَالْآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ ) (10)

هم أهل العدل (اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)(11)  والعفو من التقوى (وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) هم أهل محبة الله (إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ)(12)

قال السيوطي رحمه الله :عن أبي الدرداء قال : تمام التقوى أن يتقي الله العبد حتى يتقيه من مثقال ذرة وحتى يترك بعض ما يرى أنه حلال خشية أن يكون حراما يكون حجابا بينه وبين الحرام وعن الحسن قال : ما زالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيرا من الحلال مخافة الحرام وعن سفيان الثوري قال : إنما سموا المتقين لأنهم اتقوا ما لا يتقى و عن عبد الله بن المبارك قال : لو أن رجلا اتقى مائة شيء ولم يتق شيئا واحدا لم يكن من المتقين (13) قال ابن القيم رحمه الله :كلما اتقى العبد ربه ارتقى إلى هداية أخرى فهو في مزيد هداية ما دام في مزيد من التقوى وكلما فوت خطا من التقوى فاته حظ من الهداية بحسبه فكلما اتقى زاد هداه وكلما اهتدى زادت تقواه (14) .

إخوة العقيدة اتقوا الله أن يكون أهون الناظرين إليكم ( يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَىٰ مِنَ الْقَوْلِ ۚ) (15) كتب ابن السماك إلى محمد بن الحسن حين ولى القضاء بالرقة أما بعد فلتكن التقوى من بالك على كل حال وخف الله من كل نعمة أنعم بها عليك من قلة الشكر عليها مع المعصية بها فان في النعم حجة وفيها تبعة (16).

يقول الأعشى :

إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى

ولاقيت بعد الموت من قد تزود ا

ندمت على أن لاتكون كمثله

وأنك لم ترصد كما كان أرصدا (17)

قال ابن السعدي رحمه الله : كان يتضرع إلى ربه في طلب التقوى وتزكية النفس ، من كل رديء فيقول: « اللهم آت نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها ، أنت وليها ومولاها » . (18).

الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه يجب على العبد في عبوديته وكما يحبه الرب ويرتضيه أنعم بما لا يحصره الحساب ولا يحصيه ولا يسعه الكتاب ولا يحويه كم ذنب قد غفره ولولا الغفران لحاق العذاب بجانبه أحمده على اللاحق والسابق من أياديه حمدا يوجب المزيد من كرم الحق لحامديه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ،وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين (19)

أما بعد فاتقوا الله حق التقوى فإن أجسامكم على النار لاتقوى

قال السيوطي : عن عون بن عبد الله قال : تمام التقوى أن تبتغي علم ما لم تعلم منها إلى ما قد علمت منها و عن رجاء قال : من سره أن يكون متقيا فليكن أذل من قعود أبل كل من أتى عليه أرغاه و عن وهب بن كيسان قال : ” كتب رجل إلى عبد الله بن الزبير بموعظة أما بعد فإن لأهل التقوى علامات يعرفون بها ويعرفونها من أنفسهم من صبر على البلاء ورضى بالقضاء وشكر النعماء وذل لحكم القرآن ” وعن ابن المبارك قال : قال داود لابنه سليمان عليه السلام : يا بني إنما تستدل على تقوى الرجل بثلاثة أشياء لحسن توكله على الله فيما نابه ولحسن رضاه فيما أتاه ولحسن زهده فيما فاته و عن سهم بن سحاب قال : معدن من التقوى لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله (20) وعن ميمون بن مهران قال : لا يكون الرجل من المتقين حتى يحاسب نفسه أشد من محاسبة شريكه حتى تعلم من أين مطعمه ومن أين ملبسه ومن أين مشربه أمن حل ذلك أو من حرام ؟(21)

——————————————————————————–

(1)أهمية أعمال القلوب – (1 / 5)
(2)(البقرة:281)
 (3) (102) سورة آل عمران
(4)الاستعداد للموت – (1 / 117)
(5)التذكرة في الوعظ – (1 / 123)
(6)التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة – (1 / 10)
(7)مجموع الفتاوى ( الباز المعدلة ) – (10 / 144)
(8)التقوى – (1 / 2)
(9)  (طه : 132 )
 (10)( الزخرف : 35 )
(11)آيات التقوى في القرآن الكريم – (1 / 4)
(12) (التوبة:7 )
(13) الدر المنثور – (1 / 61)
(14) الفوائد – (1 / 130)
(15) سورة النساء
(16) عدة الصابرين – (1 / 105)
(17)آيات التقوى في القرآن الكريم – (1 / 2)
(18)الفواكه الشهية في الخطب المنبرية والخطب المنبرية على المناسبات – لابن سعدي (1 / 286)
(19)التذكرة في الوعظ – (1 / 122)
(20)الدر المنثور – (1 / 62)
(21)الدر المنثور – (1 / 63)
قد يعجبك ايضا