اتق الله حيثما كنت

84

الحمد لله جعل  المتقين في جناتٍ ونهر، أحمده سبحانه وأشكره على جزيل نعمائه وسابغ عطائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله r صلى الله عليه وعلى آهل وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.   أما بعد فأُوصيكم أيها الناس  ونفسي بتقوى الله عز وجل،فإن تقوى الله عز وجل خلفٌ من كلِ شيء، وليس من تقوى الله خلفٌ قال الله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) ([1]).

أَيُها المُسِلِمُونَ: إنَّ الله سبحانه وتعالى قال لنبيه r ( (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا) ([2])  قال الطبري رحمه الله: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد  r: (يا أيُّها النَّبِي اتَّقِ اللَّهَ) بطاعته، وأداء فرائضه، وواجب حقوقه عليك، والانتهاء عن محارمه، وانتهاك حدوده ([3]) .

أيها المؤمنون: لقد أوصى النبي   معاذاً وصية جامعةً نافعةً وهي وصيةً للمؤمنين جميعا، فعن أبي ذر ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما، أن رسول الله قال: «اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن» رواه الترمذي وقال: حديث حسن، وقال الألباني:(حسن) ، وعن معاذ: أن النبي   بعثه إلى قوم، فقال: يا رسول الله أوصني، قال: أفش السلام، وابذل الطعام، واستحي من الله استحياء رجل ذي هيئة من أهلك، وإذا أسأت فأحسن، وليحسن خلقك ما استطعت» أخرجه ابن حبان وحسنه الألباني ([4])  وعن أبي هريرة، عن النبي أنه سئل: ما أكثر ما يدخل الناس الجنة؟ قال: تقوى الله وحسن الخلق» خرجه الإمام أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه، وابن حبان في ” صحيحه “.

أيها الموحدون: فهذه الوصية وصية عظيمة جامعة لحقوق الله وحقوق عباده، فإن حق الله على عباده أن يتقوه حق تقاته، والتقوى وصية الله للأولين والآخرين. قال تعالى: {ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله} [النساء: 131]. وأصل التقوى أن يجعل العبد بينه وبين ما يخافه ويحذره وقاية تقيه منه، فتقوى العبد لربه أن يجعل بينه وبين ما يخشاه من ربه من غضبه وسخطه وعقابه وقاية تقيه من ذلك وهو فعل طاعته واجتناب معاصيه، وقال تعالى: {هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} [المدثر: 56] ، فهو سبحانه أهل أن يخشى ويهاب ويجل ويعظم في صدور عباده حتى يعبدوه ويطيعوه، لما يستحقه من الإجلال والإكرام، وصفات الكبرياء والعظمة وقوة البطش، وشدة البأس. وفي الترمذي عن أنس، «عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية {هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} [المدثر: 56] قال: قال الله تعالى: ” أنا أهل أن أتقى، فمن اتقاني فلم يجعل معي إلها آخر، فأنا أهل أن أغفر له»  ([5])  .

أيها الإخوة: لقد أوصى السلف بالتقوى  كثيراً .فقال ابن عباس: المتقون الذين يحذرون من الله عقوبته في ترك ما يعرفون من الهدى، ويرجون رحمته في التصديق بما جاء به. وقال الحسن: المتقون اتقوا ما حرم الله عليهم، وأدوا ما افترض عليهم. وقال عمر بن عبد العزيز: ليس تقوى الله بصيام النهار، ولا بقيام الليل، والتخليط فيما بين ذلك، ولكن تقوى الله ترك ما حرم الله، وأداء ما افترض الله، فمن رزق بعد ذلك خيرا، فهو خير إلى خير. وقال طلق بن حبيب: التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله. وعن أبي الدرداء قال: تمام التقوى أن يتقي الله العبد حتى يتقيه من مثقال ذرة، وحتى يترك بعض ما يرى أنه حلال خشية أن يكون حراما يكون حجابا بينه وبين الحرام، فإن الله قد بين للعباد الذي يصيرهم إليه فقال: {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره[الزلزلة: 7] وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7، 8] ، فلا تحقرن شيئا من الخير أن تفعله، ولا شيئا من الشر أن تتقيه ([6])  .

وقال الحسن: ما زالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيرا من الحلال مخافة الحرام. وقال الثوري: إنما سموا متقين، لأنهم اتقوا ما لا يتقى. وقال موسى بن أعين: المتقون تنزهوا عن أشياء من الحلال مخافة أن يقعوا في الحرام، فسماهم الله متقين. وقال ميمون بن مهران: المتقي أشد محاسبة لنفسه من الشريك الشحيح لشريكه. وقال ابن مسعود في قوله تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ } [آل عمران: 102]، قال: أن يطاع، فلا يعصى، ويذكر، فلا ينسى، وأن يشكر، فلا يكفر. وخرجه الحاكم مرفوعا والموقوف أصح، وشكره يدخل فيه جميع فعل الطاعات ([7])  .قال أبو هريرة وسئل عن التقوى، فقال: هل أخذت طريقا ذا شوك؟ قال: نعم، قال: فكيف صنعت؟ قال: إذا رأيت الشوك عدلت عنه، أو جاوزته، أو قصرت عنه، قال: ذاك التقوى ([8])  .

وكتب عمر إلى ابنه عبد الله: أما بعد، فإني أوصيك بتقوى الله عز وجل، فإنه من اتقاه وقاه، ومن أقرضه جزاه، ومن شكره زاده، واجعل التقوى نصب عينيك وجلاء قلبك. واستعمل علي بن أبي طالب رجلا على سرية، فقال له: أوصيك بتقوى الله الذي لابد لك من لقائه، ولا منتهى لك دونه وهو يملك الدنيا والآخرة. وكتب عمر بن عبد العزيز إلى رجل: أوصيك بتقوى الله عز وجل التي لا يقبل غيرها، ولا يرحم إلا أهلها، ولا يثيب إلا عليها، فإن الواعظين بها كثير، والعاملين بها قليل، جعلنا الله وإياك من المتقين ([9])  .

إخوة الدين: إن تقوى الله خشيته في السر والعلانية. راود بعضهم أعرابية، وقال لها: ما يرانا إلا الكواكب، قالت: أين مكوكبها؟ . رأى محمد بن المنكدر رجلا واقفا مع امرأة يكلمها فقال: إن الله يراكما سترنا الله وإياكما. وقال الحارث المحاسبي: المراقبة علم القلب بقرب الرب. وسئل الجنيد بم يستعان على غض البصر، قال بعلمك أن نظر الله إليك أسبق من نظرك إلى ما تنظره. وكان الإمام أحمد ينشد:

إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل … خلوت ولكن قل علي رقيب

ولا تحسبن الله يغفل ساعة … ولا أن ما يخفى عليه يغيب ([10]) 

وكتبه/ د. سعد بن عبدالله السبر

13 صفر 1439

@DR_SAADALSABER

قناة د.سعد السبر إنتاج دكتور سعد السبر كله هنا في التليجرام

 https://telegram.me/DRSAADALSABEr

0504250193جوال

salsaber@hotmail.com

 

 

([1]) سورة آل عمران، آية: 102.

(([2] سورة الأحزاب، آية: 1.

(([3] تفسير الطبري (20 / 202).

(([4] أخرجه ابن حبان وحسنه الألباني   ذكر الإخبار بأن على المرء تعقيب الإساءة بالإحسان ما قدر عليه في أسبابه  صحيح ابن حبان – مخرجا (2 / 283) : صحيح الترغيب والترهيب (3 / 7) :2654 – (حسن)

(([5] جامع العلوم والحكم ت الأرنؤوط (1 / 398)

(([6] جامع العلوم والحكم ت الأرنؤوط (1 / 400)

(([7] جامع العلوم والحكم ت الأرنؤوط (1 / 401)

(([8] جامع العلوم والحكم ت الأرنؤوط (1 / 402)

(([9] جامع العلوم والحكم ت الأرنؤوط (1 / 406)

(([10] جامع العلوم والحكم ت الأرنؤوط (1 / 409)

قد يعجبك ايضا