خطب الشيخ سعد السبر

القرآن و النصر في رمضان – خطب الجمعة

شبكة السبر – خطب الجمعه

كتبه د/  سعد بن عبدالله السبر

16/9/1428

إمام وخطيب جامع الشيخ عبدالله الجارالله رحمه الله

الحمد لله الذي امتن على عباده بنبيه المرسل صلى الله عليه وسلموكتابه المنزل ‏(لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ۖ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) (1) حتى اتسع على أهل الأفكار طريق الاعتبار بما فيه من القصص والأخبار وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثير إلى يوم الدين أما بعد فأُوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله عز وجل( يَا أَيُّهَا الذِّينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَـمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (2)

أيها الناس ها أنتم أولاءِ تتضرّعون أريجَ أيّام رمضان العاطرة وتُحيون لياليَه الزُّهرَ الغامرة، شهرٌ مبارك أغرّ، هو روضة بالخيرِ عناء، ومورِد بالبرّ والهدى معطاء، ومشعَل بالمكرُمات والهبات لألاء. في رمضان قلوبٌ أنِست بجنب الرّحيم الغفّار، وألسنةٌ لهجت بالتّوبة والدعاء والحمد والاستغفار، نفوسٌ سعِدت بالتّلاوة والتسبيح وتألّقت بالتهجُّد والتراويح، دأبُها الخضوع والخشوع، ومقلٌ أسهدَها التّفريط فأرسلت أحرَّ الدّموع، كلُّ ذلك طاعةً لله وابتغاءً لمراضيه، ولَكَم يُغبَط الموفَّقون على تذوّقهم حلاوةَ الطّاعة في رمضانَ وغيره، وتحليقِهم بجناحَي الرّغبة والرّهبة في كلّ أوقاتهم وحالاتهم،

إن رمضان يزكّي الأرواحَ، ويحدوها إلى بلادِ الأفراح، ويسُلّ سخائمَ النّفوس وأمراض القلوب، ويربّي الإراداتِ الواهنةَ على الحَزم والتّصميم، وذلك بالتحرّر من الشّهوات والانعتاق من الاسترسال في الرّغبات والملذّات، وتلك هي الحكمة العظيمةُ من تذييل آيةِ الصوم بالومضة الرائعة من وَمضَات الأسلوبِ القرآنيّ البديع في قولِه سبحانَه: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أي أنّ ثمرةَ جوع البطون وظمَأ الهواجر هي التّقوى، وكفى بها عُروةً وثقى.

أيها الأحبة إن شهر رمضان شهر النصر على النفس والشيطان والهوى فنحن نتقلب بين عبادات انتصرنا فيها على هؤلاء الأعداء فهو شهر النصر والعز المعنوي والحسي نصر ليس عسكري بل أعظم نصر ليس بالتدمير والقتل بل أشد فهو قتل للشيطان وحزبه وقمع للنفس الأمارة بالسوء ومن أعظم النصر تلاوة القران، الذي اتضح به سلوك المنهج القويم والصراط المستقيم بما فصل الله فيه من الأحكام‏ ، وفرق بين الحلال والحرام فهو الضياء والنور وبه النجاة من الغروروفيه شفاء لما في الصدور, من خالفه من الجبابرة قصمه الله ومن ابتغى العلم في غيره أضله الله, حبل الله المتين ونوره المبين والعروة الوثقى والمعتصم الأوفىوهو المحيط بالقليل والكثير والصغير والكبير‏.‏لا تنقضي عجابئه ولا تتناهى غرائبه لا يحيط بفوائده عند أهل العلمرتحديد ولا يخلقه عند أهل التلاوة كثرة الترديد هو الذي أرشد الأولين والآخرين ولماسمعه الجن لم يلبثوا أن ولوا إلى قومهم منذرين (‏ قَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا. يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا ) (3)‏ فكل من آمن به فقد وفق ومن قالبه فقد صدق ومن تمسك به فقد هدي ومن عمل به فقد فاز .

قال تعالى ‏( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ‏)(4) قال أبو أمامة الباهلي‏:‏ اقرءوا القرآن ولا تغرنكم هذه المصاحف المعلقة فإن الله لا يعذب قلباً هو وعاء للقرآن ,وقال ابن مسعود‏:‏ إذا أردتم العلم فانثروا القرآن فإن فيه علمالأولين والآخرين ‏, وقال أيضاً‏:‏ اقرءوا القرآن فإنكم تؤجرون عليه بكل حرف منه عشرحسنات أما إني لا أقول‏:‏ الحرف ألم ولكن الألف حرف واللام حرف والميم حرف‏ ,و قال أيضاً‏:‏ لا يسأل أحدكم عن نفسه إلا القرآن فإن كان يحب القرآنويعجبه فهو يحب الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم وإن كان يبغض القرآن فهويبغض الله سبحانه ورسوله 
وقال عمرو بن العاص‏:‏ كل آية في القرآن درجة في الحنة ومصباح فيبيوتكم وقال أيضاً‏:‏ من قرأ القرآن فقد أدرجت النبوة بين جنبيه إلا أنه لا يوحىإليه‏,‏وقال أبو هريرة‏:‏ إن البيت الذي يتلى فيه القرآن اتسع بأهله وكثرخيره وحضرته الملائكة وخرجت منه الشياطين وإن البيت الذي لا يتلى فيه كتاب الله عزوجل‏:‏ ضاق بأهله وقل خيره وخرجت منه الملائكة وحضرته الشياطين ,‏وقال محمد بن كعب القرظي‏:‏ إذا سمع الناس القرآن من الله عز وجليوم القيامة فكأنهم لم يسمعوه قط‏.‏

وقال الفضيل بن عياض‏:‏ ينبغي لحامل القرآن أن لا يكون له إلى أحد حاجة ولا إلى الخلفاء فمن دونهم فينبغي أن تكون حوائج الخلق إليه ‏‏وقال سفيان الثوري‏:‏ إذا قرأ الرجل القرآن قبل الملك بين عينيه‏وقال عمرو بن ميمون‏:‏ من نشر مصحفاً حين يصلي الصبح فقرأ منه مائةآية رفع الله عز وجل له مثل عمل جميع أهل الدنيا‏.‏

أيها المؤمنون تلاوة القرآن ينبغي أن يكون لها أثرٌ ولابد من حضور القلب لنفهم كلام ربنا ونعرف ديننا وننعم بالعمل به ويروى ‏”‏ أن خالد بن عقبة جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال اقرأ علي القرآن فقرأ عليه ‏”‏ إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى‏”‏ الآية فقال له أعد فأعاد فقال‏:‏ والله إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أسفلهلمورق وإن أعلاه لمثمر وما يقول هذا بشر ‏”‏ وقال الحسن والله ما دون القرآن من غنىولا بعده من فاقة‏,‏وقال الفضيل‏:‏ من قرأ خاتمة سورة الحشر حين يصبح ثم مات من يومهختم له بطابع الشهداء ومن قرأها حين يمسي ثم مات من ليلته ختم له بطابع الشهداء وقال القاسم بن عبد الرحمن‏:‏ قلت لبعض النساك ما هاهنا أحد نستأنس به فمد يده إلىالمصحف ووضعه على حجره وقال‏:‏ هذا‏.‏

إخوة الدين سلفنا وخلفنا قراؤا القرآن وتلذذوا به ولم يملوه ففنتح الله عليهم خيرات علومه وأسراره وغاصوا في أغواره فوجدوا أثره لأنهم علموا فضله وخافوا الوعد في تركه ,وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه‏:‏ ثلاث في ذم تلاوة الغافلينقال أنس بن مالك‏:‏ رب تال للقرآن والقرآن يلعنه ‏, وقال ميسرة‏:‏ الغريب هو القرآن في جوف الفاجر وقال أبو سليمان الداراني‏:‏ الزبانية أسرع إلى حملة القرآن الذين يعصون الله عز وجل منهم إلى عبدةالأوثان حين عصوا الله سبحانه بعد القرآن‏.‏

أيها الإخوة إن سلفنا في قرأتهم للقرآن يحضرون بكليتهم فيعطيهم الله خيره والتنعم بفهمه لأنهم تدبروه وتلاوته تصورها خطابا من الديان لهم ففهموها وأنصتوا لها وتمثلوها في حياتهم وقال ابن مسعود ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذا الناس ينامون وبنهاره إذا الناس يفرطون وبحزنه إذا الناس يفرحون وببكائه إذا الناس يضحكون وبصمته إذا الناس يخوضون وبخشوعه إذا الناس يختالون‏.‏

وقام سعيد بن جبير ليلة يردد هذه الآية ( وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ ‏) (5)‏ وقال بعضهم‏:‏ إني لأفتتح السورة فيوقفني بعض ما أشهد فيها عن الفراغ منها حتى يطلع الفجر‏.

‏وكان بعضهم يقول‏:‏ آية لا أتفهمها ولا يكون قلبي فيها لا أعد لها ثواباً وحكي عن أبي سليمان الداراني أنه قال‏:‏ إني لأتلو الآية فأقيم فيها أربع ليال أو خمس ليال ولولا أني أقطع الفكر فيها ما جاوزتها إلى غيرها‏.‏وعن بعض السلف أنه بقي في سورة هود ستة أشهر يكررها ولا يفرغ من التدبر فيها‏.

‏وقال بعض العارفين‏:‏ لي في كل جمعة ختمة وفي كل شهر ختمة وفي كل سنة ختمة ولي ختمه منذ ثلاثين سنة ما فرغت منها بعد,وكان مالك بن دينار يقول‏:‏ ما زرع القرآن في قلوبكم يا أهل القرآن إن القرآن ربيع المؤمن كما أن الغيث ربيع الأرض‏.

‏وقال قتادة‏:‏ لم يجالس أحد هذا القرآن إلا قام بزيادة أو نقصان قال تعالى ‏( هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ۙ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا) (6)‏

الثامن التأثر وهو أن يتأثر قلبه بآثار مختلفة بحسب اختلاف الآيات فيكون له بحسب كل فهم حال ووجديتصف به قلبه من الحزن والخوف والرجاء وغيره,ولذلك قال الحسن‏:‏ والله ما أصبح اليوم عبد يتلو القرآن يؤمن بهإلا كثر حزنه وقل فرحه وكثر بكاؤه وقل ضحكه وكثر نصبه وشغله وقلت راحته وبطالته‏,وقال وهيب بن الورد نظرنا في هذه الأحاديث والمواعظ فلم نجد شيئاًأرق للقلوب ولا أشد استجلاباً للحزن من قراءة القرآن وتفهمه وتدبره‏,وقال عثمان وحذيفة رضي الله عنهما‏:‏ لو طهرت القلوب لم تشبع من قراءة القرآن ,وقال ابن مسعود رضي الله عنه‏:‏ من أراد علم الأولين والآخرين فليتدبر القرآن‏

عباد الله، هذا القرآن تنزل الملائكة لسماعه وتتأثر به، يقول الرسول لأسيد بن حضير: ((اقرأ يا ابن حضير، تلك الملائكة دنت لصوتك، ولو قرأت لأصبحتْ ينظر الناس إليها، لا تتوارى منهم)).

القرآن خلع أفئدة الكفار، وألقى الهيبة في قلوبهم، فهذا جبير بن مطعم ـ وكان مشركًا من أكابر قريش وعلماء النسب فيها ـ لما أخِذ في أسرى بدر وربط في المسجد سمع النبي يقرأ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ قال: كاد قلبي أن يطير، كان ذلك أول ما دخل الإيمان في قلبي. وكان أبو بكر يصلي في بيته ويقرأ القرآن، فيتقصّف عليه نساء المشركين وأبناؤهم يستمعون عند داره، يعجبون وينظرون إليه، فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين.

قال عبدالله بن عروة ببن الزبير : قلت لجدتي أسماء بنت أبيبكر كيف كان أصحاب رسول الله إذا سمعوا القرآن ؟ قالت تدمعأعينهم وتقشعر جلودهم كمانعتهم الله روى ابن أبي الدنيا من حديث عبدالرحمن بن الحارث بن هشام ، قال : سمعت عبدالله بن حنظلة يوما وهو على فراشه وعدته من علته ، فتلا رجل عنده هذه الآية ( لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ )(7) فبكى حتى ظننت أن نفسه ستخرج ، وقال : صاروا بين أطباق النار ثم قام على رجليه ، فقال قائل : يا أبا عبدالرحمن اقعد ، قالمنعني القعود ذكر جهنم ولعلي أحدهم .

ومن حديث أبي بكر بن عياش قال : صليتخلف فضيل بن عياض صلاة المغرب وإلى جانبي علي بن فضيل فقرأ الفضيل ( أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ )(8) فلما بلغ ( لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ )(9) سقط علي مغشيا عليه ، وبقي الفضيل لا يقدر يجاوز الآيه ، ثم صلى بنا صلاة خائف ،قال ثم رابطت علياً فما أفاق إلا في نصف الليل, سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلا يتهجد في الليل ويقرأ سورة الطور فلما بلغ إلى قوله تعالى (إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ )(10) قال عمر : قسم ورب الكعبة حق، ثم رجع إلىمنزله فمرض شهرا يعوده الناس لا يدرون ما مرضه .

____________________________

(1) سورة فصلت :41

(2) سورة آل عمران ، آية : 102 .

(3) الجن :2

(4) الحجر :9

(5) يس : 59

(6) الاسراء : 82

(7) الاعراف :41

(8) التكاثر :1

(9) التكاثر :5

(10) الطور :8

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى