قبسات من قوله تعالى (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم )

فهذه قبسات من قوله تعالى :{إ ِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9)}
جمعتها من كتاب أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن لفضيلة الشيخ العلامة :
محمد الأمين بن محمد المختار بن عبد القادر الجكني الشنقيطي (المتوفى : 1393هـ)
وإليكم هذه القبسات
*ذكر جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة: أن هذا القرآن العظيم الذي هو أعظم الكتب السماوية، وأجمعها لجميع العلوم، وآخرها عهداً برب العالمين جلَّ وعلا ـ يهدي للتي هي أقوم. أي الطريقة التي هي أسد وأعدل وأصوب
*هذه الآية الكريمة أجمل الله جلَّ وعلا فيها جميع ما في القرآن من الهدى إلى خير الطرق وأعدلها وأصوبها، فلو تتبعنا تفصيلها على وجه الكمال لأتينا على جميع القرآن العظيم. لشمولها لجميع ما فيه من الهدى إلى خيري الدنيا والآخرة. ولكنَّنا إن شاء الله تعالى سنذكر جملاً وافرة في جهات مختلفة كثيرة مِن هدى القرآن للطريق التي هي أقوم بياناً لبعض ما أشارت إليه الآية الكريمة، تنبيهاً ببعضه على كله من المسائل العظام، والمسائل التي أنكرها الملحدون من الكفَّار، وطعنوا بسببها في دين الإسلام، لقصور إدراكهم عن معرفة حكمها البالغة.
*من هدي ذلك توحيد الله جلَّ وعلا: فقد هدى القرآن فيه للطريق التي هي أقوم الطرق وأعدلها، وهي توحيده جلَّ وعلا في ربوبيته، وفي عبادته، وفي أسمائه وصفاته.
*وقد دل استقراء القرآن العظيم على أن توحيد الله ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول ـ توحيده في ربوبيته، وهذا النوع من التوحيد جبلت عليه فطر العقلاء، قال تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ…} ، وقال: {قُلْ مَنْ يرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ}وهذا النوع من التوحيد لا ينفع إلا بإخلاص العبادة لله
* النوع الثاني : ـ توحيده جلَّ وعلا في عبادته. وضابط هذا النوع من التوحيد هو تحقيق معنى «لا إله إلاَّ الله» وهي متركبة من نفي وإثبات. فمعنى النفي منها: خلع جميع أنواع المعبودات غير الله كائنة ما كانت في جميع أنواع العبادات كائنة ما كانت. ومعنى الإثبات منها: إفراد الله جلَّ وعلا وحده بجميع أنواع العبادات بإخلاص، على الوجه الذي شرعه على ألسنة رسله عليهم الصلاة والسلام. وأكثر آيات القرآن في هذا النوع من التوحيد، وهو الذي فيه المعارك بين الرسل وأممهم {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}
*النوع الثالث ـ توحيده جلَّ وعلا في أسمائه وصفاته. وهذا النوع من التوحيدِ ينبني على أصلين:
الأول: تنزيه الله جلَّ وعلا عن مشابهة المخلوقين في صفاتهم. كما قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} .
والثاني : الإيمان بما وصف الله به نفسه. أو وصفه به رسول الله صلى الله عليه وسلم على الوجه اللائق بكماله وجلاله. كما قال بعد قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ، مع قطع الطمع عن إدراك كيفية الاتصاف، قال تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً}
*من هدي القرآن لِلتي هي أقوم ـ جعله الطلاق بيد الرجل. كما قال تعالى: {يأيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ…}
*من هدي القرآن للتي هي أقوم ـ إباحته تعدد الزوجات إلى أربع، وأن الرجل إذا خاف عدم العدل بينهن، لزمه الاقتصار على واحدة، أو ملك يمينه،ولا شك أن الطريق التي هي أقوم الطرق وأعدلها، هي إباحة تعدد الزوجات لأمور محسوسة يعرفها كلَّ العُقَلاء.وذلك لما يعتري المرأة من عوارض من حيض ونفاس ومرض وكذلك كثرة النساء مقارنة بأعداد الرجال ومع هذا فإن خاف الرجل ألا يعدل بينهن، وجب عليه الاقتصار على واحدة، أو ملك يمينه. لأن الله يقول: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ} والميل بالتفضيل في الحقوق الشرعية بينهن لا يجوز، لقوله تعالى: {فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} الذكر على الأنثى في الميراث. كما قال تعالى: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}وقد صرح تعالى في هذه الآية الكريمة: أنه يبين لخلقه هذا البيان الذي من جملته تفضيل الذكر على الأنثى في الميراث لئلا يضلوا. فمن سوى بينهما فيه فهو ضال قطعاً.
ثم بين أنه أعلم بالحكم والمصالح وبكل شيء من خلقه بقوله: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ}.ولا شك أن الرجل أفضل من المرأة و ذلك لأن الذكورة في كمال خلقي، وقوة طبيعية، وشرف وجمال. والأنوثة نقص خلقي، وضعف طبيعي، كما هو محسوس مشاهد لجميع العقلاء، لا يكاد ينكره إلا مكابر في المحسوس. ومن الأدلة على أفضلية الذكر على الأنثى: أن المرأة الأولى خلقت من ضلع الرجل الأول. فأصلها جزء منه. فإذا عرفت من هذه الأدلة: أن الأنوثة نقص خلقي، وضعف طبيعي، فاعلم أن العقل الصحيح الذي يدرك الحكم والأسرار، يقضي بأن الناقص الضعيف بخلقته وطبيعته، يلزم أن يكون تحت نظر الكامل في خلقته، القوي بطبيعته؛جلب له ما لا يقدر على جلبه من النفع، ويدفع عنه ما لا يقدر على دفعه من الضر. كما قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ}
*صح عن النَّبي صلى الله عليه وسلم اللعن على من تشبه منهما بالآخر. قال البخاري في صحيحه: حدثنا محمد بن بشار حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن قتادة، عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال هذا لفظ البخاري في صحيحه. ومعلوم أن من لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو ملعون في كتاب الله. لأن الله يقول: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ…}
* ومن هدي القرآن للتي هي أقوم: ملك الرقيق المعبر عنه في القرآن بملك اليمين في آيات كثيرة. كقوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}, وقوله جلَّ وعلا: {وَلاَ نِسَائِهِنَّ وَلاَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ}, وقوله: { لاَّ يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِن بَعْدُ وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} المراد بملك اليمين في جميع هذه الآيات ونحوها: ملك الرقيق بالرق. وسبب الملك بالرق: هو الكُفر، ومحاربة الله ورسوله.
والحكم بالرق من أعدل الأحكام وذلك لأن الله جل جلاله خلق الخلق لعبادته كما قال سبحانه {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} ,وأسبغ عليهم نعمه المتتالية , وجعل لهم السمع والأبصار والأفئدة ليشكروه, تمرد الكفار على ربهم وطغوا وعتوا، وأعلنوا الحرب على رسله لئلا تكون كلمته هي العليا، واستعملوا جميع المواهب التي أنعم عليهم بها في محاربته، وارتكاب ما يسخطه، ومعاداته ومعاداة أوليائه القائمين بأمره. وهذا أكبر جريمة يتصورها الإنسان.
فعاقبهم الحكم العدل اللطيف الخبير جلَّ وعلا ـ عقوبة شديدة تُناسب جريمتهم. فسلبهم التصرف، ووضعهم من مقام الإنسانية إلى مقام أسفل منه كمقام الحيوانات، فأجاز بيعهم وشِراءهم، وغير ذلك من التصرفات المالية، مع أنه لم يسلبهم حقوق الإنسانية سلباً كلياً. فأوجب على مالكيهم الرفق والإحسان إليهم، وأن يطعموهم مما يطعمون، ويكسوهم مما يلبسون، ولا يكلفوهم من العمل ما لا يطيقون، وإن كلفوهم أعانوهم. كما هو معروف في السنة الواردة عنه صلى الله عليه وسلم، مع الإيصاء عليهم في القرآن. كما في قوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى} إلى قوله {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} بل و مع ذلك كله تشوف الشارع الحكيم إلى الحث على عتقهم كما قال سبحانه وتعالى { فكاتبوهم إن علمت فيهم خيراً }
*من هدي القرآن للتي هي أقوم: قطع يد السارق المنصوص عليه بقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} وقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: “لو سرقت فاطمة لقطعت يدها” .
وجمهور العلماء على أن القطع من الكوع، وأنها اليمنى. وكان ابن مسعود وأصحابه يقرؤون “فاقطعوا أَيمانهما”.
والجمهور أنه إن سرق ثانياً قطعت رجله اليسرى، ثم إن سرق فيده اليسرى، ثم إن سرق فرجله اليمنى، ثم يعزر. وقيل يقتل.
*قد بين الله جلَّ وعلا في محكم كتابه: أن الحكمة في جعله بني آدم شعوباً وقبائل هي التعارف فيما بينهم. وليست هي أن يتعصب كل شعب على غيره، وكل قبيلة على غيرها. قال جلَّ وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} ، فاللام في قوله {لِتَعَارَفُوا} لام التعليل، والأصل لتتعارفوا، وقد حذفت إحدى التاءين. فالتعارف هو العلة المشتملة على الحكمة لقوله: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ} ، ونحن حين نصرح بمنع النداء بالروابط العصبية والأواصر النسبية، ونقيم الأدلة على منع ذلك، لا ننكر أن المسلم ربما انتفع بروابط نسبِية لا تمت إلى الإسلام بصلة. كما نفع الله نبيه صلى الله عليه وسلم بعمه أبي طالب.
*الرابطة الحقيقية التي تجمع المفترق وتؤلف المختلف هي رابطة «لا إله إلا الله» ألا ترى أن هذه الرابطة التي تجعل المجتمع الإسلامي كله كأنه جسد واحد، وتجعله كالبنيان يشد بعضه بعضاً، عطفت قلوب حملة العرش ومن حوله من الملائكة على بني آدم في الأرض مع ما بينهم من الاختلاف. قال تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} فقد أشار تعالى إلى أن الرابطة التي رَبَطَتْ بين حملة العرش ومن حوله، وبين بني آدم في الأرض حتى دعوا الله لهم هذا الدعاء الصالح العظيم، إنما هي الإيمان بالله جلَّ وعلا. لأنه قال عن الملائكة: {وَيُؤْمِنُونَ بِهِ} فوصفهم بالإيمان. وقال عن بني آدم في استغفار الملائكة لهم {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} فوصفهم أيضاً بالإيمان. فدل ذلك على أن الرابطة بينهم هي الإيمان وهو أعظم رابطة.
* المصالح التي عليها مدار الشرائع ثلاثة:
الأولى: درء المفاسد المعروف عند أهل الأصول بالضروريات.
والثانية: جلب المصالح، المعروف عند أهل الأصول بالحاجيات.
والثالثة: الجري على مكارم الأخلاق ومحاسن العادات، المعروف عند أهل الأصول بالتحسينيات والتتميمات. وكل هذه المصالح الثلاث هدى فيها القرآن العظيم للطريق التي هي أقوم الطرق وأعد لها.
فالضروريات التي هي درء المفاسد؛ إنما هي درؤها عن ستة أشياء:
الأوَّل : الدين، وقد جاء القرآن بالمحافظة عليه بأقوم الطرق وأعد لها. كما قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} وقال تعالى {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} وقال تعالى: {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} وقال صلى الله عليه وسلم: “أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدو أن لا إله إلا الله” الحديث، وقال صلى الله عليه وسلم: “من بدل دينه فاقتلوه” إلى غير ذلك من الأدلة على المحافظة على الدين.
والثاني : النفس، وقد جاء القرآن بالمحافظة عليها بأقوم الطرق وأعدلها. ولذلك أوجب القصاص درءاً للمفسدة عن الأنفس، كما قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} وقال تعالى : {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} ،
الثالث : العقل، وقد جاء القرآن بالمحافظة عليه بأقوم الطرق وأعدلها. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} إلى قوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} وقال صلى الله عليه وسلم: “كل مسكر حرام” ، وقال: “ما أسكر كثيره فقليله حرام” ,وللمحافظة على العقل أوجب صلى الله عليه وسلم حد الشارب درءاً للمفسدة عن العقل.
الرابع : النسب، وقد جاء القرآن بالمحافظة عليه بأقوم الطرق وأعدلها. ولذلك حرم الزنى وأوجب فيه الحد الرادع، وأوجب العدة على النساء عند المفارقة بطلاق أو موت. لئلا يختلط ماء رجل بماء آخر في رحم امرأة محافظة على الأنساب. قال تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} ، ونحو ذلك من الآيات، وقال تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ . وقال تعالى في إيجاب العدة حفظاً للأنساب: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} ، وقال: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} ، وإن كانت عدة الوفاة فيها شبه تعبد لوجوبها مع عدم الخلوة بين الزوجين.
ولأجل المحافظة على النسب منع سقي زرع الرجل بماء غيره. فمنع نكاح الحامل حتى تضع، قال تعالى: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}
الخامس : العِرْض، وقد جاء القرآن بالمحافظة عليه بأقوم الطرق وأعدلها. فنهى
المسلم عن أن يتكلم في أخيه بما يؤذيه، وأوجب عليه إن رماه بفرية حد القذف ثمانين جلدة. قال تعالى: {وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم} وقبح جلَّ وعلا غيبة المسلم غاية التقبيح. بقوله: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ}
السادس : المال، وقد جاء القرآن بالمحافظة عليه بأقوم الطرق واعدلها. ولذلك منع أخذه بغير حق شرعي، وأوجب على السارق حد السرقة وهو قطع اليد كما تقدم. قال تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَلَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَرَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ},وقال: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّه} ، وكل ذلك محافظة على المال ودرء للمفسدة عنه.
المصلحة الثانية : جَلْب المصالح، وقد جاء القرآن بجلب المصالح بأقوم الطرق وأعدلها. ففتح الأبواب لجلب المصالح في جميع الميادين، قال تعالى {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} ] وقال: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ}، وقال: {يضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ , وقال: {بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} .
ولأجل هذا جاء الشرع الكريم بإباحة المصالح المتبادلة بين أفراد المجتمع على الوجه المشروع. ليستجلب كل مصلحته من الآخر، كالبيوع، والإجارات والأكرية والمساقاة والمضاربة، وما جرى مجرى ذلك.
المصلحة الثالثة: الجري على مكارم الأخلاق ومحاسن العادات، وقد جاء القرآن بذلك بأقوم الطرق وأعدلها. والحض على مكارم الأخلاق ومحاسن العادات كثير جداً في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. ولذلك لما سُئلت عائشة رضي الله عنها عن خلقه صلى الله عليه وسلم قالت: كان خُلقه القرآن لأن القرآن يشتمل على جميع مكارم الأخلاق. لأن الله تعالى يقول في نبيه صلى الله عليه وسلم: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} ,فدل مجموع الآية وحديث عائشة على أن المتصف بما في القرآن من مكارم الأخلاق: أنه يكون على خُلق عظيم، وذلك لعظم ما في القرآن من مكارم الأخلاق.
· ومن هدي القرآن للتي هي أقوم ـ هديه إلى حل المشاكل العالمية بأقوم الطرق وأعدلها. ومن ذلك نبين هدي القرآن العظيم إلى حل ثلاث مشكلات يعاني منها من كل من ينتسب إلى دين الإسلام
المشكلة الأولى: هي ضعف المسلمين في أقطار الدنيا في العدد والعدد عن مقاومة الكفار. وقد هدى القرآن العظيم إلى حل هذه المشكلة بأقوم الطرق وأعدلها. فبين أن علاج الضعف عن مقاومة الكفار إنما هو بصدق التوجه إلى الله تعالى، وقوة الإيمان به
والتوكل عليه؛ لأن الله قوي عزيز، قاهر لكل شيء. فمن كان من حزبه على الحقيقة لا يمكن أن يغلبه الكفار ولو بلغوا من القوة ما بلغوا. ومما يدل على ذلك : أن الكفار لما ضربوا على المسلمين ذلك الحصار العسكري العظيم في غزوة الأحزاب المذكور في قوله تعالى: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً}
المشكلة الثانية: هي تسليط الكفار على المؤمنين بالقتل والجراح وأنواع الإيذاء ـ مع أن المسلمين على الحق والكفار على الباطل.
وهذه المشكلة استشكلها أصحاب النَّبي صلى الله عليه وسلم. فأفتى الله جل وعلا فيها، وبين السبب في ذلك بفتوى سماوية تتلى في كتابه جلَّ وعلا.وذلك أنه لما وقع ما وقع بالمسلمين يوم أحد: فقتل عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمته، ومثل بهما، وقتل غيرهما من المهاجرين، وقتل سبعون رجلاً من الأنصار، وجرح صلى الله عليه وسلم، وشُقَّت شفته، وكسرت رباعيته، وشج صلى الله عليه وسلم.
استشكل المسلمون ذلك وقالوا: كيف يدال منا المشركون؟ ونحن على الحق وهم على الباطل؟ فأنزل الله قوله تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} ,وقوله تعالى: {قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} ، فيه إجمال بينه تعالى بقوله: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا} –الى قوله -: {لِيَبْتَلِيَكُمْ} .
لمشكلة الثالثة:هي اختلاف القلوب الذي هو أعظم الأسباب في القضاء على كيان الأمة الإسلامية. لاستلزامه الفشل، وذهاب القوة والدولة. كما قال تعالى: {وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} ,ففي هذه الفتوى السماوية بيان واضح. لأن سبب تسليط الكفار على المسلمين هو فشل المسلمين، وتنازعهم في الأمر، وعصيانهم أمره صلى الله عليه وسلم، وإرادة بعضهم الدنيا مقدماً لها على أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وقد بين تعالى في سورة «الحشر» أن سبب هذا الداء الذي عَمت به البلوى إنما هو ضعف العقل. قال تعالى: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} ، ثم ذكر العلة لكون قلوبهم شتى بقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ} ولا شك أن داء ضعف العقل الذي يصيبه فيضعفه عن إدراك الحقائق، وتمييز الحق من الباطل، والنافع من الضار، والحسن من القبيح، لا دواء له إلا إنارته بنور الوحي. لأن نور الوحي يحيا به من كان ميتاً ويضيء الطريق للمتمسِّك به. فيريه الحق حقاً والباطل باطلاً، والنافع نافعاً، والضار ضاراً. قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ} إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن الإيمان يكسب الإنسان حياة بدلاً من الموت الذي كان فيه، ونوراً بدلاً من الظلمات التي كان فيها, هذا النور عظيم يكشف الحقائق كشفاً عظيماً. كما قال تعالى: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} إلى قوله: {وَيَضْرِبُ اللَّهُ الاٌّمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلَيِمٌ} ، ولما كان تتبع جميع ما تدل عليه هذه الآية الكريمة من هدي القرآن للتي هي أقوم، يقتضي تتبع جميع القرآن وجميع السنة لأن العمل بالسنة من هدي القرآن للتي هي أقوم. لقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}
هذا والله أعلم
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجميعن ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ,,,,
(1) اعتمدت على نسخة دار الفكر للطباعة و النشر و التوزيع بيروت – لبنان , طبعة عام : 1415 هـ- 1995 مـ