خطبة: بناء الأسرة المسلمة
الحمد لله، أعطى كلَّ شيء خَلْقَه ثم هَدى، وألزم عبادَه بما أنزل من الهُدى، أحمده على ما أرشد وهدى، وأشكره على ما أسدى وأعطى، وأشهد أ لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، إليه ترفع النجوى، وهو منتهى كل شكوى، وإليه المآب والرُّجعى، وأشهد أن محمدًا عبده المجتبى، ونبيه المصطفى، ورسوله المرتضى، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، ومَن تبع هديَهم واقتفى.
أما بعد:
فاتقوا الله – عباد الله – فإن تقواه – سبحانه- خير زادٍ يُدَّخر في هذه الحياة وبعد الممات؛ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾. [آل عمران: 102].
أيها المسلمون:
نعمة من نِعَم الله – تعالى – على عباده في هذه الحياة، أنْ هيَّأ لهم الأُسرَ، وجعلها سكنًا ورحمةً، ولباسًا وموَّدة. قال – جلَّ جلاله – ممتناً على عباده: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾. [الروم: 21].
ومن هنا جاء الاهتمام العظيم في الإسلام بتشييد بناء الأسرة؛ لأن الأسرة هي الدِّعامة الأساس في صرح الأمة، واللبنة الأولى في تكوين المجتمع، فعلى قدر ما تكون اللبنة قويةً يكون البناء راسخًا منيعًا، وكلما كانت ضعيفة كان البناء واهيًا، آيلاً للتصدع والانهيار.
الأسرة المسلمة هي المدرسة الأولى التي يتخرج منها الأعضاءُ الفاعلون في المجتمع، ساسةٌ وقادة، علماءُ وقضاةٌ، مربونَ ودعاةٌ، وزوجاتٌ صالحاتٌ، وأمهاتٌ مربياتٌ.
ولقد سعى الإسلام سعيًا حثيثًا لإصلاح الأسر، وبدأ ذلك بالأسس التي تتكوَّن منها الأسرة المسلمة، وفي مقدمة ذلك اختيارُ الزوجة ذاتِ الصلاحِ والدينِ؛ لأنها – بإذن الله – أهمُّ عوامل الإصلاح للأسرة بعد الرجل؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تنكح المرأة لأربعٍ: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربتْ يداك) متفق عليه، وقال صلى الله عليه وسلم: (الدنيا متاع، وخير متاعها الزوجة الصالحة) رواه مسلم.
كما أرشدَ الإسلام الأولياءَ إلى اختيار الزوج الصالح، ذي الخُلقِ القويم، والدين المستقيم؛ قال صلى الله عليه وسلم: (إذا أتاكم مَن ترضَوْنَ خُلقه ودِينه، فزوِّجوه، إلاَّ تفعلوا تكنْ فتنةٌ في الأرض وفسادٌ عريضٌ) رواه الترمذي وابن ماجه.
وشأن النكاح عظيم وعقده قوي ورباطه محكم كما قال ربنا تعالى: ﴿وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾ [النساء:21]. والنبي صلى الله عليه وسلم وصف الزواج بـ(كلمة الله)، وقال ابن تيمية رحمه الله: “الأصل في الطلاق الحظر، وإنما أبيح منه قدر الحاجة”.
فلا من احترام عَقْدِ الزَّوْجِيَّةِ وحفظ الحقوق، وعدم الاستهانة به فلا يجوز بعد ذلك إنهاؤه بسبب تافه لخلاف يسير، أو طلب الخلع، وما أكثره هذه الأيام!
وباجتماع الزوجين الصالحين، تُبنى الأسرة الصالحة ﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ﴾. [الأعراف: 58].
بناء الأسرة يشادُ بالإيمان والتقوى، ووقود هذا الإيمان العبادات والعمل الصالح، وإن بيتًا يُنشَّأ على طاعة الله لحريٌّ به أن يكون بيتًا إيمانيًّا، يعظُمُ ثوابُ أهله، ويصفو عيشهم؛ قال – تعالى- ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ﴾. [مريم: 132]، وكان صلى الله عليه وسلم يصلي مِن الليل، فإذا أوتر قال: (قُومي – يا عائشةُ – فأوتري)؛ رواه مسلم.
الأسرة المسلمة تُعنى بحسن تربية الأولاد؛ وتعليمهم وتأديبهم، امتثالاً لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾. [التحريم: 6]، وقال صلى الله عليه وسلم: (كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته، فالرجل راعٍ ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها). متفق عليه.
والوالدان دورهما مهم في التوجيه والتربية، يتعاونان لحفظ أولادهما، ومتابعتهم بالمشورة والحوار، وسماع الرأي الآخر برفق ولين.
وصلاح المرء في نفسه صلاحٌ لأهله وذريته بالقدوة الحسنة، ومجانبة ما يسقط المروءة، أو يضر بالدين والعقل من الخمور والمخدرات، والعلاقات المحرمة، فمعصية الله، وتضيع أمانة البنين والبنات، مما يفت في بناء الأسرة المسلمة ويعرضها لرياح التفكك، وأعاصير الانفصام.
إن مما يحفظ بناء الأسرة المعاشرة بالمعروف، والرفق واللين، ولا يتحقق ذلك إلا بمعرفة كل طرف ما له وما عليه، وتوطين النفس على الحلم والصبر، وغض الطرف عن بعض المنغصات، قال تعالى: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا﴾. [النساء: 19]. وقال صلى الله عليه وسلم: (استوصوا بالنساء خيراً). متفق عليه، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يَفْرَكْ مؤمنٌ مؤمنةً – أي: لا يُبغض ولا يكْره – إن كره منها خُلقًا رضي منها آخر). رواه مسلم. ومن هنا فلا بد غفران الزلاَت، والغض عن الهَفَوات حتى تدوم العشرة وتسود المودة، وتعمر القلوب بحسن الظن، فسوء الظن والشك، مما ينغص العيش ويقلق البال.
والمرأة المسلمة زوجة صالحة وأم شفيقة، راعيةٌ في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، ذاتَ عفةٍ ودين، تطيع زوجها وتحفظه في نفسها وماله، لا تسيء إليه إذا حضر ولا تخونه إذا غاب: ﴿فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ﴾ [النساء:34].
بحصول الوئام في الأسرة يتهيأ المناخ الصالح للتربية، وتنشأ الناشئة في أسرة عامرة بحنان الأمومة وحدب الأبوة، بعيدًا عن صخب النزاع والاختلاف، ﴿وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾. [الفرقان: 74].
إن صلاح الأسرة وترابطها طريق أمان للمجتمع كله، قال سبحانه: ﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ﴾. [النحل:72]
الأسرة المسلمة يترعرع في أحضانها بنون وبنات يمثلون حاضر الأمة ومستقبلها، يتربون ويقوى عودهم ويشتد ساعدهم ليحملوا الراية في خدمة الدين والوطن.
الأسرة المسلمة تعمل على تهيئة حياة أبنائها وترسم ملامح مستقبلهم بتعليمهم وتأهيلهم، وتحمل المسؤولية إزاء أهليهم ومجتمعهم، وهكذا تنشأ أسر فاضلة جديدة رحمها موصول وبرها دائم.
الأسرة المسلمة أبناؤها يتربون على الوسطية والاعتدال في النفقة والعطاء، وعدم الإسراف والتبذير، وكذلك التربية على القناعة، والرضا بما قسم الله، واستغناء النفس، وعدم الحرص على حطام الدنيا، قال صلى الله عليه وسلم): ليس الغِنى عن كثرة العرَض، ولكن الغِنى غِنى النفس) متفق عليه.
نعم الأسرة المسلمة لا تبنى على أمور دنيوية مادية فحسب، بل قوامها العلاقة الروحية الكريمة، وعمودها الصلاح والتقوى، وحينما تقوى هذه الأسس والصفات، فإنها تمتد إلى الحياة الآخرة بعد الممات: ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ﴾. [الرعد: 23].
ألا، فاتقوا الله – أيها المسلمون – وتمسكوا بهدي رسوله الأمين، سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد ألا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، وسمع الله لمن دعا، وسلام على عباده الذين اصطفى. أما بعد:
فاتقوا الله – رحمكم الله – حق التقوى، واعلموا أن أسركم أمانة في أعناقكم، استرعاكم الله على مَنْ فيها مِن الزوجات والأولاد، والله سائلٌ كلَّ راعٍ عما استرعى: أحَفِظَ أم ضيَّع؟ فيا خيبةَ مَن ضيع الأمانة، وأساء التربية!
اللهم صل على محمد وعلى آله وأزواجه الطيبين وصحابته الغر الميامين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين.
اللهم وفق خادم الحرمين الشريفين وولي عهده لما تحب وترضى وخذ بنواصيهم للبر والتقوى.
ربنا آتِنا في الدنيا حسنةً، وفي الآخرة حسنةً، وقِنا عذاب النار.
سبحانك ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.