فيروس كورونا والتوكل على الله وبذل الأسباب

الحمد لله أمر بالتوكلِ عليه، و فعلِ الأسبابِ، أحمده سبحانه على جزيل نعمائه وسابغ عطائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله خير المتوكلين، وأفضل المتفائلين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الغر الميامين، وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين. أما بعد فأُوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله حق التقوى، فهي حصنكم من الشرك ، وأَثْمِرَوا بتوحيدكم الفأل والظن الحسن، وفعل الأسباب. قال الله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) ([1]).
أَيُها المُسِلِمُونَ: إنَّ الله عز وجل أمر بحفظ الأنفس وحمايتها قال الله تعالى:( وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) ([2] ) ،وقال تعالى: (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) ([3] ) .
أيها المؤمنون: إن المشاهد لما يحدث في بعض الدول من انتشارِ فيروسِ كورونا وتأثيرهِ على الناس، فإنه يرى قدرةَ اللهِ وعظمتَه وابتلاءَه للناسِ، فمخلوقٌ صغيرٌ لا يُرى، وقف الناس أمامه في حيرة ، فالله هو القوي القادر لا يُعجزه شيء. قال الله تعالى: ( وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) ([4] )، ولنعلم بأن فيروس كورونا لن يُغير الآجال فلن يُقدمها ولن يؤخرها. قال الله تعالى: (وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا ۚ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) ([5] )، وعلينا أن نتوكلَ على الله حق التوكلِ وأن نفعل الأسبابَ المشروعة؛ لأن تركَ فعلِ الأسباب نقصٌ في العقل و قدحٌ في الشرع . قال ابن أبي العز الحنفي : مما ينبغي أن يعلم، ما قاله طائفة من العلماء، وهو : أن الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد! ومحو الأسباب أن تكون أسباباً، نقص في العقل، والإعراض عن الأسبابِ بالكليةِ قدح في الشرع. ومعنى التوكل والرجاء، يتألف من وجوب التوحيد والعقل والشرع ([6] ) .
أيها الناس: إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الطيرة وأمر بأخذ الحذر وعمل الأسباب من عدوى الأمراض، فعن سَعِيدُ بْنُ مِينَاءَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لاَ عَدْوَى وَلاَ طِيَرَةَ، وَلاَ هَامَةَ وَلاَ صَفَرَ، وَفِرَّ مِنَ المَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الأَسَدِ» رواه البخاري ([7]) ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ فِي وَفْدِ ثَقِيفٍ رَجُلٌ مَجْذُومٌ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّا قَدْ بَايَعْنَاكَ فَارْجِعْ» رواه مسلم([8]).
أيها الموحدون: إن فيروس كورنا من الأمور التي تُوجب علينا فعلَ الأسبابِ وأخذَ الحيطةِ والحذرِ منه، وما قام به ولاةُ أمرِنا وفقهم اللهُ من إجراءاتٍ وقائيةٍ احترازيةٍ مؤقتةٍ من إيقافِ تأشيراتِ العمرةِ وتأشيراتِ قاصدي الحرمين والسياحةِ وإيقافِ العمرةِ عن المواطنين والمقيمين هي: إجراءاتٌ مشروعةٌ وهي من بذلِ الأسبابِ؛ لحماية المواطنين والمقيمين، فعلينا أن نتعاون مع ولاةِ أمرِنا في جهودِهم لصدِ هذا الفيروسِ الخطيرِ عنا وعن بلادنا المملكة العربية السعودية، وأن نتخذَ أسبابَ الوقايةِ التي تصدرً من ولاةِ أمرِنا ومن وزارةِ الصحةِ، وأن نأخذَ من موقعِ وزارةِ الصحةِ التوجيهاتِ ونتبعَهَا ونحذرَ الإشاعات ونَقلَها ، ونحذرَ من تخويف الناس، أو نقلَ أخباراَ عن أدويةٍ ونحن لا نعلمُ عن صحتها شيئا، فقد تضرُ وتًؤذي، فعلينا أن نَتوجَه لموقعِ وزارةِ الصحةِ ، ونتواصلَ مع وزارةِ الصحة ونتركَ الأخذَ من غيرِهم؛ لضمانِ صحةِ المعلوماتِ، وعدمِ الضررِ على النفس والمسلمين ، فعن أسامة بن زيد رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا سَمِعْتُمْ بِالطَّاعُونِ بِأَرْضٍ فَلاَ تَدْخُلُوهَا، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلاَ تَخْرُجُوا مِنْهَا» رواه البخاري ومسلم ([9]).قال الطبري في هذا الحديث : الدلالة على أن على المرء توقى المكاره قبل وقوعها وتجنب الأشياء المخوفة قبل هجومها، وأن عليه الصبر وترك الجزع بعد نزولها، وذلك أنه عليه السلام نهى من لم يكن في أرض الوباء عن دخولها إذا وقع فيها، ونهى من هو فيها عن الخروج منها بعد وقوعه فيها فرارًا منه، فكذلك الواجب أن يكون حكم كل متق من الأمور سبيله في ذلك سبيل الطاعون وهذا المعنى نظير قوله عليه السلام: (لاَ تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ العَدُوِّ، وَسَلُوا اللَّهَ العَافِيَةَ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا ) رواه البخاري ومسلم ([10] ) ([11]) .قالت عمرة: سألت عائشة عن الفرار من الطاعون، فقالت: هو كالفرار من الزحف. وسئل الثوري عن الرجل يخرج أيام الوباء بغير تجارة معروفة، قال: لم يكونوا يفعلون ذلك وما أحبه ([12]).وعن ابن مسعود قال: الطاعون فتنة على المقيم والفار، أما الفار فيقول: فررت فنجوت، وأما المقيم فيقول أقمت فمت، وكذلك فرّ من لم يجيء أجله وأقام فمات من جاء أجله. وقال المدائني يقال: إنه قلّ ما فر أحد من الطاعون فسلم من الموت ([13]).
الخطبة الثانية
الحمد لله أحب المتوكلين وحفظهم، أحمده سبحانه وأشكره على نعمه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين. أما بعد فاتقوا الله أيها المؤمنون.
إخوة الدين: إن بذلَ الأسبابِ للحماية من الأخطار أمرٌ مشروعٌ فعله النبي صلى الله عليه وسلم ، فقد لَبِس الدرعَ وهو خير المتوكلين، فلا منافةَ بين التوكلِ وفعلِ الأسبابِ. قال ابن بطال: قول النبي صلى الله عليه وسلم (لاَ يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ يَلْبَسُ لَأْمَتَهُ فَيَضَعُهَا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ) رواه البخاري ([14] ) أي: ليس ينبغي له إذا عزم أن ينصرف؛ لأنه نقض التوكل الذى شرط الله مع العزيمة، فلبسه لأمته دال على العزيمة ([15] ) . قال ابن عثيمين رحمه الله: حكمة النبي صلى الله عليه وسلم في أن الإنسان لا يقدم على ما فيه الهلكة والضرر لأن الله تعالى قال {ولا تقتلوا أنفسكم} وقال {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} فلا يجوز للإنسان أن يخاطر في أمر يخشى منه الهلاك وإن كان كل شيء بقدر لكن الأسباب لها أثرها ومنها أنه إذا وقع الوباء في الأرض فإنه لا يجوز للإنسان أن يخرج منها فرارا منه وأما إذا خرج لحاجة فلا بأس ومنها أنه لا بأس أن يستعمل الإنسان من الأدوية والحبوب والإبر ما يمنع الوباء لأن ذلك من الوقاية قبل نزول البلاء ولا بأس بها كما أن الإنسان إذا نزل به وباء وعالجه فلا حرج عليه فكذلك إذا أخذ وقاية منه فلا حرج عليه ولا يعد ذلك من نقص التوكل بل هذا من التوكل لأن فعل الأسباب الواقية من الهلاك والعذاب أمر مطلوب والذي يتوكل أو يدعي أنه متوكل ولا يأخذ بالأسباب ليس بمتوكل في الحقيقة بل إنه طاعن في حكمة الله عز وجل لأن حكمة الله تأبى أن يكون الشيءُ إلا بالسبب الذي قدره الله تعالى له والله الموفق ([16]).
ألآ وصلوا وسلموا على نبيكم نبي الرحمة محمد بن عبدالله كما أمركم الله….
اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين..
اللهم انصر جنودنا المرابطين على الحوثيين وأعوانهم..
اللهم تقبل شهداءهم واشف جرحاهم واخلفهم في أهلهم خيرا
اللهم وفق خادم الحرمين الشريفين وولي عهده لما تحبه وترضاه واجعل عملهم في رضاك . اللهم سددهم وخذ بنواصيهم للبر والتقوى وسائر ولاة المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين…….
وكتبه/ د. سعد بن عبدالله السبر
الخميس 10 رجب 1441
([1]) سورة آل عمران، آية: 102.
(([7] رواه البخاري بَابُ الجُذَامِ حديث رقم 5707 صحيح البخاري (7 / 126) .
(([8] صحيح مسلم بَابُ اجْتِنَابِ الْمَجْذُومِ وَنَحْوِه ِحديث رقم 2231 (4 / 1752) .
(([9] أخرجه البخاري بَابُ مَا يُذْكَرُ فِي الطَّاعُونِ حديث رقم 5728 صحيح البخاري (7 / 130)، وأخرجه مسلم باب الطاعون والطيرة والكهانة ونحوها حديث رقم 2218 صحيح مسلم (4 / 1737).
(([10] أخرجه البخاري بَابٌ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا لَمْ يُقَاتِلْ أَوَّلَ النَّهَارِ أَخَّرَ القِتَالَ حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ حديث رقم 2966 صحيح البخاري (4 / 51)، وأخرجه مسلم بَابُ كَرَاهَةِ تَمَنِّي لِقَاءِ الْعَدُوِّ، وَالْأَمْرِ بِالصَّبْرِ عِنْدَ اللِّقَاءِ حديث 1732 صحيح مسلم (3 / 1362).
(([11] شرح صحيح البخاري لابن بطال (9 / 423).
(([12] شرح صحيح البخاري لابن بطال (9 / 425).
(([13] شرح صحيح البخاري لابن بطال (9 / 426)، وينظر: الاستذكار (8 / 252).
rmgh63@gmail.com
جزاكم الله خيرا سعادة الشيخ الدكتور سعد السبر ونفع الله بكم وبعلمكم الإسلام والمسلمين ونسأل الله تعالي ان يحفظك ويبارك في عمرك ويعطيك الصحة والعافية وأن يحفظ بلاد الحرمين وجميع بلاد المسلمين يارب العالمين
جاري النشر
اللهم أنت القريب وأنت الصاحب والحبيب ، وأنت الوحيد المُجيب ، وأنت الشافي الطبيب ، وأنت الذي تعلم مانُريد ، اللهم ارحم ضعفنا ، وآمن روعنا ، وأسعد قلوبنا ، وفرج همومنا ، واصرف عنا مايُقلقنا ويُعكر صفونا ، وأرزقنا صبراً جميلاً .
اللهم امييييين