وداعاًرمضـان __ للشيخ سعد السبر

الحمدُ لله الذي يغفرُ الزللَ ويصفح ، ويَمْحُو الخطأَ ويَسْمح ، كلُّ من لاَذَ به أفلح ، وكلُّ من عَامَلَهُ يَرْبح ، رفعَ السماءَ بغيرِ عمدٍ فتأمَّلْ والْمح ، وأنزلَ القَطْر فإذا الزَّرْعُ في الماءِ يَسْبح ، أَغْنَى وأَفْقَرْ وربَّما كان الفقرُ أَصْلح ,أَشْهدُ أنَّ لا إِلَه إلَّا الله مَنَّ بالعَطاءِ الوَاسِعِ وأَفْسحَ ، وأَشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه أَبَان الدِّينَ وأَوْضحَ , صَلَّى اللهُ عَليْه ، وعلى صَحابَتِهِ الكرام ما أَمْسَى النَّهارُ وما أَصْبحْ .( 1 ) أمَّا بعد فأُوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله عز وجل فهي خير الوصايا وأكمل العطايا وحرزٌ من الرزايا ووصيةُ خيرِ البرايا ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) ( يا أيها الناس اتقوا الله ولتنظر نفسٌ ما قدمت لغدٍ واتقوا الله إن الله خبير )
أيها الناس دارَ الزمانُ دَورته وتصرَّمت الأيامُ تِلْوَ الأيام .. وهَا هُو شهُرنا أَزِفَ رحيلُه .. وأَفَلَ نجمُهُ بعد أنْ سَطَعْ .. وسَيُظْلِم لَيلُهُ بعد أنْ لَمَعْ .لا أدري ما أبْدَأُ به .. أَأُهَنِّيَكُم بِقُربِ العيدِ المبارك ( 3 )، أَمْ أُعزِّيكم بفراقِ شهرِ القُرآنِ والغُفْران . فجَبَرَ اللهُ مُصِيبَتَنا في رمضان .
القلبُ يمتلئ لوعةً وأَسَى ، والعينُ تُسطِّر بمدَادِها لحنَ الخلود .
واليدُ تَأْبَى أنْ تكتُب ؟ وما عساها أنْ تكتب ؟أتكتبُ حالَ الرحيل ؟!
أتقيِّدُ مَوْقِفَ الوداع ؟! أَتَنْقشُ ألَمَ الفراق ؟!أحقاً انقضى رمضان ..!
أَذَهبَ ظَمَؤُ الصِّيامِ وانطفأَ نورُ القيام ..!يا وَلَهِي عليه ..
أَذَهَبَ رمضانُ وغابَ هلالُهُ ..؟ هل قُوِّضتْ خِيامُه ..وتقطَّعتْ أوتادُه .. ؟
أيُّ حال للمؤمنِ والمؤمنةِ بَعْدَ رَحِيْلِ رمضان ..؟
يا راحـلاً وجمـيلُ الصَّبْرِ يَتْبعُهُ هلْ مِنْ سَبيلٍ إلى لُقْيَاكَ يَتَّفِقُ
ما أَنْصَفتْكَ دُمُوعِي وهي دَامِيةٌ ولا وَفَى لكَ قَلْبي وهو يَحْتَرقُ( 4)
مَنْ الذي لا تُؤلِم نفسَهُ لحظاتُ الفراق ؟ من مِنَّا لا تَجْرحُ مشاعرَهُ ساعاتُ الغياب ؟
بالأمسِ القريب ، بَارَك بعضُنا لبعْضٍ استقبالَ رمضان ، فَسُكِبَتْ العبراتُ فرحاً واستبشاراً به ، وطرِبَتْ القُلُوب ، وشُنِّفَت الأسماع بصدى تراويحه ,واليوم .. له لونٌ غريبٌ من الدُّموع ! فانهملتْ على الخدود .. وجادَتْ بأغلى ما لديها ..
يا عيوناً أرسلتْ أدْمُـعَـها ما بِذا بأسٌ لو أَرْسَلْتِ الدّمَـا
رمضان وأيُّ شهر كان ..؟ رمضانُ .. شاهدٌ لنا أو علينا مما أَوْدَعْنَاهُ من الأعمال .. فَمْن أودعه صالحاً فلْيَحمد ِ الله ، وليُبْشِرْ بحسن الثواب ، واللهُ لا يُضيعُ أجرَ مَنْ أحسنَ عملاً .ومَنْ أَوْدَعَهُ سَيِّئاً فليَسْكُبِ الدَّمعَ الغزير ، وليأتِ ما بقي من القليل .فكم من جاء بالقليل وتُوِّجَ بالقَبول ! وكمْ منْ جاء بالكثيرِ فَمُنِيَ بالحرمان
غداً تـوفَّى النفـوسُ ما كسبت ويحصدُ الزارعونَ ما زرعوا
إنْ أَحْسَنوا فقد أَحْسَنوا لأنفُسِهِم وإنْ أساؤُوا فبِئْسَ ما صنعوا( 1 )
وروي عن علي رضي الله عنه أنه كان ينادي في آخر ليلة من شهر رمضان : يا ليت شعري من هذا المقبول فنهنيه و من هذا المحروم فنعزيه و عن ابن مسعود رضى الله عنه أنه كان يقول : من هذا المقبول منا فنهنيه و من هذا المحروم منا فنعزيه أيها المقبول هنيئا لك أيها المردود جبر الله مصيبتك)
أيها الصائمون القانتون حين خرج عمرَ بن عبد العزيز رحمه الله ، يوم الفطر ليخطب فقال : أيُّها الناس .. صُمتمْ للهِ ثلاثينَ يوماً ، وقُمتمْ ثلاثينَ ليلةً ، وخرجتم اليوم تطلبون من الله أنْ يَتَقبَّلَ منكم ما كان ! وكان بعضُ السلفِ يَظْهَرُ عليه الحزنُ يومَ عيدِ الفطرِ ، فيُقَالَ له : إنَّه يومُ فرحٍ وسرور ، فيقول : صَدَقْتُمْ ؛ ولكني عبدٌ أمرني مولاي أنْ أعملَ لَهُ عملاً ، فلا أَدْرِي أَيْقبَلُهُ مِنِّي أَمْ لا ؟ وقال الحسنُ رحمه الله : إنَّ اللهَ جعلَ شهرَ رمضانَ مضماراً لخلقه يَسْتبِقُون فيه بطَاعَتِهِ إلى مَرْضَاتِهِ ، فَسَبَقَ قومٌ فَفَازُوا ، وتَخَلَّفَ آخرونَ فَخَابُوا ، فالعجبُ من الَّلاعِبِ الضَّاحِكِ في اليَومِ الذي يَفُوزُ فيه المُحْسِنُون ، ويَخْسَرُ فيهِ المُبْطِلُون . ثُمَّ يَبْكي رحمه الله فجدوا واجتهدوا في المضمار فيه بقية وأي بقية ؟ فاغتنموها بالصالحات أيها المستغفرون لئن تقضت ليالي رمضان فمازالت له بقية هي من أهم الليالي وأجلاها قدرا ولكن القلب لفراق رمضان مكسور
ترحَّلت يا شهرَ الصيامِ بصومِنا وقـدْ كنتَ أنواراً بكلِّ مكانِ
لئنْ فَنِيَتْ أيامُك الزُّهرُ بَغتـةً فما الحزنُ مِنْ قلبي عليك بِفَانِ
عليكَ سلامُ الله كن شاهداً لنا بخـيرٍ رعاكَ الله مِنْ رمـضانِ
لئن ترحل رمضان فبقيت أيام وليالي قليلة فيها ليلة يُعتق الله فيها عدد ما عتق هي آخر ليلة (إنما يُوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ) وبقيت ليلة السابع والعشرين التي أقسم بعض الصحابة على أنها ليلة القدر فلا تفوتك يا عبدالله
أيها التائبون سبق قوم في رمضان ففازوا وخاب قوم فخسروا وفرطوا في رمضان فخابوا فيُقال لهم يا أسير دنياه، يا عبد هواه، يا موطن الخطايا، ويا مستودع الرزايا، اذكر ما قدّمت يداك، وكن خائفًا من سيدك ومولاك أن يطّلع على باطن زللك وجفاك، فيصدك عن بابه، ويبعدك عن جنابه، ويمنعك عن مرافقة أحبابه، فتقع في حضرة الخذلان، وتتقيد بشرك الخسران، وكلما رُمت التخلص من غيّك وعناك، صاح بك لسان الحال وناداك يا من باع الباقي بالفاني، أما ظهر لك الخسران، ما أطيب أيام الوصال، وما أمرّ أيام الهجران، ما طاب عيش القوم حتى هجروا الأوطان، وسهروا الليالي بتلاوة القرآن فيبيتون لربهم سجدًا وقياما يا عبد السوء، كم تعصي ونستر، كم تكسر باب نهي ونجبر، كم نستقطر من عينيك دموع الخشية ولا يقطر، كم نطلب وصلك بالطاعة، وأنت تفرّ وتهجر، كم لي عليك من النعم، وأنت بعد لا تشكر. خدعتك الدنيا وأعمال الهوى وأنت لا تسمع ولا تبصر. سخّرت لك الأكوان وأنت تطغى وتكفر، وتطلب الإقامة في الدنيا وهي نظرة لمن يعبر.
إخواني، ما هذه السّنة وأنتم منتبهون؟ وما هذه الحيرة وأنتم تنظرون؟ وما هذه الغفلة وأنتم حاضرون؟ وما هذه السكرة وأنتم صاحون؟ وما هذا السكون وأنتم مطالبون؟ وما هذه الإقامة وأنتم راحلون؟ أما آن لهؤلاء الرّقدة أن يستيقظوا؟ أما حان لأبناء الغفلة أن يتعظوا؟. آن الرحيل فكن على حذر *** ما قد ترى يغني عن الحذر
لا تغترر باليوم أو بغد *** فلربّ مغرور على خطر
إخواني، إلى كم تماطلون بالعمل، و تطمعون في بلوغ الأمل، وتغترّون بفسحة المهل، ولا تذكرون هجوم الأجل؟ ما ولدتم فللتراب، وما بنيتم للخراب، وما جمعتم فللذهاب، وما عملتم ففي كتاب مدّخر ليوم الحساب. وأنشدوا: ولو أننا إذا متنا تركنا *** لكان الموت راحة كل حيّ
ولكنّا إذا متنا بعثنا *** ونُسأل بعدها عن كل شيء
إخواني: بادروا بالتوبة من الذنوب، واقتفوا آثار التوّابين، واسلكوا مسالك الأوّابين، الذين نالوا التوبة والغفران، وأتعبوا أنفسهم في رضا الرحمن، فلو رأيتهم في ظلم الليالي قائمين، ولكتاب ربهم تالين، بنفوس خائفة، وقلوب واجفة، قد وضعوا جباههم على الثرى ورفعوا حوائجهم لمن يرى ولا يرى يا هذا،
معاشر التائبين: تعالوا نبكي على الذنوب فهذا مأتم الحُزان، تعالوا نسكب المدامع. ونشتكي الهجران، لعل زمان الوصال يعود كما كان , هذا بياض الشيب ينذر بخراب الأوطان، يا من تخلف حتى شاب، وقد رحلت الأظعان يا تائهًا في تيه التخلف، يا حائرًا في بريّة الحرمان، نهارك في الأسباب، وليلك في الرقاد، هذه الخسارة عيان، إذا ولى الشباب ولم يربح، ففي الشباب حتى ذبل من معاصي الرحمن، فعند إقبال المشيب، ندمت على ما قد كان. إن لم يشاهدك رفيق التوفيق، وإلا ففي الحرمان حرمان. وقد يرحم المولى من ضعف عن الأسباب {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} .