أبالنبوة يُلعب – خطب الجمعة

شبكة السبر – خطب الجمعه
كتبه د/ سعد بن عبدالله السبر
29/10/1431
إمام وخطيب جامع الشيخ عبدالله الجارالله رحمه الله
الحمد لله أبقى العلوم ذخائر ، وأرسل الآيات بَصَائِر ، نحمده في الأول والآخر ، ونشكره في البَاطِنِ وَالظَّاهر ، ونشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ، لا ند له ولا مثيل ، ولا شبيه ولا نظير ، (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)(1) ، وأشهد أن محمدا مبعوثه إلى خلقه ، وصفيُّه من بينهم ، انتهض به الفجر بعد النِّيام ، وتجلت بِمَقْدَمِهِ حُجُبُ الظلام ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ، ومن اتبع طريقتهم ، وسار على خطاهم ومنهجهم ، وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين .
أما بعد : فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله عز وجل ، بها تصعد الأرواح إلى العلياء ، وتطول القلوب أبواب السماء ، ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) .(2)
أيها الناس : أشرقَتْ على آخرِ الجيل صحوةُ الضياع ، وقادَ أشرافَ القومِ خِيرةُ الرُّعَاع ، فتعلَّقت بحروفهم الحياةُ ، وتبنَّت هُتافاتِهم القناة ، ففاضَتْ كنوزُ الأموال ، واسْتُمْطِرَتِ الْبُنْيِانُ الطِّوَال ، فَأَضْحَتِ الدَّهماءُ في حِيْرةٍ وَحَرَج ، يسألون اللهَ مقاليدَ الفَرَج ، لم يبق من النبوة سوى تعبير الرؤى ، فتنصب لها العالم والمُتَنَبِي ، والراشد والفاقد ، فأكلوا عقول الناس وفتُّوا العضد ، واسترهبوا المجتمع وقضُّوا جداره ، فَتَوَلَّوْا واسْتَوْلَوْا ، وقد سئل إمامُ دار الهجرة مالك: أيعبر الرؤيا كلُ أحد ؟ فقال: أَبِالنُّبُوَّةِ يُلْعَبْ ؟ (3)، فاستَحْلَمَ النَّائِمُ حُلُمَا ، وَاسْتَحْلَبَ المُسَهَّدُ رُؤْيَا ، فتسابق الناس على أرقام تجار الرؤى والأضْغَاث ، فتَقلَّدَ الحَدَثُ فَهْمَ الأحداث ، وَتَعَهَّدَ بِعِلْمِ الْغَيْبِ وَالأَجْدَاث ، اتَّكَلَتِ العقولُ على الأحلام ، فضَعُفَ التَّوَكُّلُ بِالعَلام ، وَتَرَدَّتِ الْحَالُ إِلى الشِّركِ بِالله ؛ لاتِّكَالِهمْ على غيره ، من تعبير مُعَبِّرٍ ، أَوْ تَدْبِيرِ مُدَبِّرٍ ، وتناسَوا أن كَمالَ التوكُّلِ هُوَ التفويضُ إلى الله ، والاعتماد عليه في كل الأمور مع الأخذ بالأسباب . فتعتمد على الله في السلامة من الشر ، والعافية من الفتن ، وحصول الرزق ، وفي دخول الجنة ، والنجاة من النار قَالَ تَعَالَى: ( وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ )(4)وقَالَ : (وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) (5)يعني : كافيه (6).
أَيُّهَا الْمُوَحِّدُون : اعلموا أن تعبير الرؤى ليس علما بحتا يُتعلم؛ فيكتسب فهو من العلوم الغريزية الفطرية ، وليس من العلوم المكتسبة . ويدل على هذا قوله تعالى : (وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ) (7). قال الأمين الشنقيطي –رحمه الله- مُعَلِّقاً على هذه الآية : بيَّن الله -جل وعلا- أنه عَلَّم نبيَّهُ يوسفَ من تأويل الأحاديث، وصَرَّح بذلك أيضا في قوله: ( وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ) (8) وقوله: ( رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ)(9)، واختلف العلماء في المراد بتأويل الأحاديث. فذهب جماعة من أهل العلم إلى أن المراد بذلك: تعبير الرؤيا، فالأحاديث على هذا القول هي الرؤيا ، قالوا: لأنها إما حديث نفس أو ملك أو شيطان.
وكان يوسف أعبر الناس للرؤيا ، ومن المعلوم أن رؤيا الأنبياء وحي(10)، ويدل لهذا الوجه الآيات الدالة على خبرته بتأويل الرؤيا، كقوله: (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ ) (11). وقوله: ( قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ) (12)، إلى قوله: (يَعْصِرُونَ) (13) (14)أهـ
أيُّها الْمُوقِنون : إذا تقرَّرَ ذلك ؛ ترسَّخ في الأذهَان أنَّ ما يُعْرضُ في سُوقِ الإعلام بِضَاعَةٌ كَاسِدة ، وَتِجارةٌ فاسِدة ، وجُلُّه إن لم يَكُن كُلُّه مجرَّد تُرَّهاتٍ وخزعبلات ، لا تستند إلى دليل صريح ، أو فهم صحيح ، ولتعلموا أن ” الرؤيا معلقة برجل طائر ما لم يحدث بها صاحبها فإذا حدث بها وقعت فلا تحدثوا بها إلا عاقلا أو محبا أو ناصحا ” (15).
وقال مالك: لا يعبر الرؤيا إلا من يحسنها، فإن رأى خيرا أخبر به، وإن رأى مكروها فليقل خيرا أو ليصمت، قيل: فهل يعبرها على الخير وهى عنده على المكروه لقول من قال إنها على ما تأولت عليه ؟ فقال: لا ! ثم قال: الرؤيا جزء من النبوة فلا يتلاعب بالنبوة.(16)
إخْوَة العَقِيدة : اعلموا أن الرؤيا حالةٌ شريفة، ومنزلةٌ رفيعة، قال ‚ : ( لم يبق بعدى من المبشرات إلا الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو ترى له )(17) . وقال ‚ : (أصدقكم رؤيا أصدقكم حديثا ) .
وحكم ‚ : ( بأنها جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة ) ، وجَاء أنَّها ( من سبعين جزءا من النبوة ) (18)، وجاء من حديث ابن عباس „ : (جزءا من أربعين جزءا من النبوة ) (19)
أيها الأحبة : إن الرؤيا الصادقة من الله، وإنها من النبوة، قال ‚: ” الرؤيا من الله والحلم من الشيطان ” روى عوف ابن مالك عن رسول الله ‚ قال: ” الرؤيا ثلاثة منها أهاويل الشيطان ليحزن ابن آدم ومنها ما يهتم به في يقظته فيراه في منامه ومنها جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة،.قال قلت: سمعت هذا من رسول الله ‚ ؟ قال نعم ! سمعته من رسول الله (20).
ومعلوم أن التصديق بالرؤيا حق، ولها التأويل الحسن، وربما أغنى بعضها عن التأويل، وفيها من بديع الله ولطفه ما يزيد المؤمن في إيمانه، ولا خلاف في هذا بين أهل الدين والحق من أهل الرأي والأثر، ولا ينكر الرؤيا إلا أهل الإلحاد وشر ذمة من المعتزلة (21).قال أبو عبيدة: الأضغاث ما لا تأويل له من الرؤيا (22).
أيها المخبتون : إذا رأيت رؤيا فما هو حالك وكيف تصنع روى البخاري عن أبي سلمة قال: لقد كنت أرى الرؤيا فتمرضني حتى سمعت أبا قتاده يقول: وأنا كنت لأرى الرؤيا فتمرضني حتى سمعت رسول الله ‚ يقول: ” الرؤيا الحسنة من الله فإذا رأى أحدكم ما يحب فلا يحدث به إلا من يحب وإذا رأى ما يكره فليتعوذ بالله من شرها وليتفل ثلاث مرات ولا يحدث بها أحدا فإنها لن تضره ” (23).
قال القرطبي:قال علماؤنا: فجعل الله الاستعاذة منها مما يرفع أذاها، ألا ترى قول أبي قتادة: إني كنت لأرى الرؤيا هي أثقل علي من الجبل، فلما سمعت بهذا الحديث كنت لا أعدها شيئا.
وزاد مسلم من رواية جابر عن رسول الله ‚ أنه قال: ” إذا رأى أحدكم الرؤيا يكرهها فليبصق عن يساره ثلاثا وليتعوذ بالله من الشيطان ثلاثا وليتحول عن جنبه الذي كان عليه “.
وفي حديث أبي هريرة عن النبي قال: ” إذا رأى أحدكم ما يكره فليقم فليصل “(24).
قال علماؤنا: وهذا كله ليس بمتعارض، وإنما هذا الأمر بالتحول، والصلاة زيادة، فعلى الرائي أن يفعل الجميع، والقيام إلى الصلاة يشمل الجميع، لأنه إذا صلى تضمن فعله للصلاة جميع تلك الأمور، لأنه إذا قام إلى الصلاة تحول عن جنبه، وإذا تمضمض تفل وبصق، وإذا قام إلى الصلاة تعوذ ودعا وتضرع لله تعالى في أن يكفيه شرها في حال هي أقرب الأحوال إلى الإجابة، وذلك السحر من الليل (25).
أيها الموحدون : أما مدة الرؤيا التي يجوز تأويل الرؤيا خلالها قال عبد الله بن شداد بن الهاد: كان تفسير رؤيا يوسف ‚ بعد أربعين سنة، وذلك منتهى الرؤيا (26).
أما أعلم الناس بالرؤيا فيوسف عليه السلام أعلم الناس بتأويلها، وكان نبينا ‚ نحو ذلك، وكان الصديق رضي الله عنه من أعبر الناس لها، وحصل لابن سيرين فيها التقدم العظيم، والطبع والإحسان، ونحوه أو قريب منه كان سعيد بن المسيب فيما ذكروا (27).
——————————————————————————–
(1) .سورة الشورى :آية :11
(2 ) .سورة آل عمران : آية : 102 .
(3)( تفسير القرطبي (9 / 126)
(4) .المائدة: : الآية :23
(5 ).الطلاق : الآية : 3
( 6)شرح الأصول الثلاثة لابن باز-رحمه الله- (1 / 24) .
(7) . يوسف : الآية :6
(8).يوسف : الآية 21
(9) . يوسف : الاية 101
( 10) أضواء البيان للشنقيطي(2 / 202)
(11) . يوسف : 41
(12) . يوسف : 47
(13) .يوسف 49
(14) أضواء البيان (2 / 202) .
( 15) أخرجه أحمد 4/10(16283) و”الدارِمِي” ، و”أبو داود”5020 ، و”ابن ماجة”3914 ، و”التِّرمِذي”2278 قال حسن صحيح.
(16 ) تفسير القرطبي (9/126)
(17) رواه البيهقي في الشعب رقم : (4750) .
(18)رواه ابن أبي شيبة في المصنف ، رقم الحديث : (30461) .
(19 )تفسير القرطبي (9 / 122) قال القرطبي في تفسيره ج9ص122-123 ومن حديث ابن عمر ” جزء من تسعة وأربعين جزءا “.
ومن حديث العباس ” جزء من خمسين جزءا من النبوة “.ومن حديث أنس ” من ستة وعشرين ” وعن عبادة بن الصامت ” من أربعة وأربعين من النبوة “. والصحيح منها حديث الستة والأربعين، ويتلوه في الصحة حديث السبعين، ولم يخرج مسلم في صحيحه غير هذين الحديثين، أما سائرها فمن أحاديث الشيوخ، قاله ابن بطال. قال أبو عبد الله المازوى: والأكثر والأصح عند أهل الحديث ” من ستة وأربعين “. قال الطبري: والصواب أن يقال إن عامة هذه الأحاديث أو أكثرها صحاح، ولكل حديث منها مخرج معقول .
(20)أخرجه ابن ماجه (2/1285 ، رقم 3907) قال البوصيري (4/155) : هذا إسناد صحيح رجاله ثقات . والطبراني في الكبير (18/63 ، رقم 118) . وأخرجه أيضًا : في الأوسط (7/24 ، رقم 6742) .
( 21) تفسير القرطبي – (9 / 124) .
(22) تفسير القرطبي (9 / 199).
( 23) رواه البخاري (6 / 2582) رقم الحديث 6637 .
(24 ) رواه مسلم (4 / 1773) رقم الحديث 2263
(25 ) تفسير القرطبي (9 / 128) .
(26) تفسير القرطبي (9 / 129)
(27 ) تفسير القرطبي (9 / 129)