العدة والعتاد ضد الفساد – خطب الجمعة

شبكة السبر – خطب الجمعه
كتبه د/ سعد بن عبدالله السبر
11/9/1432
إمام وخطيب جامع الشيخ عبدالله الجارالله رحمه الله
الْحَمْدُ للهِ الَّذِي رَزَقَنَا السَّلامَةَ وَالْفَائِدَةَ، وَحُسْنَ السَّيْرِ لِعَزِيزِ الْعَائِدَةِ، وَقَانَا سَرَفَ الْهَوَى، وَعَادَة الْجَوْر، وداعية الفساد، وصارفة الصّلاح (1) ، فضلنا بالتوحيد، الذي هو حق الله على العبيد، ومن أجله بعث الرسل، وكل كتاب به نزل، وهو رأس العمل (2) ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في الخلق والعبادة والأسماء والصفات تنزه عن الند وعن الشبيه وعن المثيل وعن النظير (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ )(3)، والحمد لله الذي بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالدلائل الواضحة، والحجج القاطعة، والبراهين الساطعة؛ بشيراً ونذيراً، وداعياً إليه بإذنه وسراجا منيرا؛ فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونهض بالحجة، ودعاء إلى الحق، وحض على الصدق (4) ، وعلى آله الطاهرين الطيبين وأصحابه الغر الميامين وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين أما بعد: فأُوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله فهي طريق الريان، وحلية الصيام، وعطية الديان، (( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ )(5) ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) (6) .
أيها الصائمون : رمضان بركة الزمان، باب الجود في رمضان مفتوح ، والرحمة تغدو وتروح ، والفوز ممنوح ، فيه ترتاح الروح ، لأنه شهر الفتوح ، هنيئاً لمن صامه ، وترك فيه شرابه وطعامَه ، وبشرى لمن قامَه ، واتبع إمامَه (7)، قلوب خاشعة ، وأقدام قائمة باكية ، وأنفس صائمة وتاليةٌ. المزامير في الكون تتغنى، والقلوب بالقيام تتهنَّى، والنفحات من الرحمن تتوالى ، والسيئات تُغفر ، والذنوب تُكفر ( إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به ) (8) (فَلَا تَعْلَم نَفْس مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّة أَعْيُن جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (9)
أيها القانتون : المؤمنون يتقلبون في النفحات ، ويتعرضون للرحمات ويرجون رب السموات ، أنفسهم كالعسل بل هي أحلى ، صدورهم متسعة كأرض فلاة بل هي أجلى
قال الحسن في يوم فطر وقد رأى الناس وهيآتهم إن الله تبارك وتعالى جعل رمضان مضمارا لخلقه يستبقون فيه بطاعته إلى مرضاته فسبق أقوام ففازوا وتخلف آخرون فخابوا فالعجب من الضاحك اللاعب في اليوم الذي يفوز فيه المحسنون ويخسر فيه المبطلون أما والله لو إن كشف الغطاء لشغل محسن بإحسانه ومسيء بإساءته عن ترجيل شعر أو تجديد ثوب (10) ، في هذه الروحانية لم يحتاج المسلمون لطبيب ولا راقٍ ؛ لأن الرب طبيبُهمُ وحبيبُهُم، وأمانهم وأمنهم، قربوا منهم فأعطاهم وزادهم وأغناهم وكفاهم, “آمين آمين، آمين” فقالوا : يا رسول الله سمعناك تقول: آمين ثلاث مرات قال : لما رقيت الدرجة الأولى جاءني جبريل فقال: شقيَ عبد أدرك رمضان فانسلخ منه ولم يغفر له فقلت: آمين ” (11) خرج الإمام أحمد و غيره: من رحم في رمضان فهو المرحوم، و من حرم خيره، فهو المحروم، ومن لم يتزود لمعاده فيه فهو ملوم، يا من طالت غيبته عنا قد قربت أيام المصالحة، يا من دامت خسارته قد أقبلت أيام التجارة الرابحة، من لم يربح في هذا الشهر ففي أي وقت يربح؟ من لم يقرب فيه من مولاه فهو على بعده لا يربح كم ينادي حي على الفلاح و أنت خاسر! كم تدعى إلى الصلاح و أنت على الفساد مثابر!! (12)
اللهم أنا نستوهبك التأمل، و ما فيه من شفاء الجهل، و نستعيذ بك من التقليد و ما فيه من إضاعة العقل، ولا يؤثر عنا قولنا إلاّ و له إلى أوامرك منزع و لطف، و لا ينفذ لنا عمل إلاّ و له في طاعتك نسب و لو ضعف، و أن تجعل بمفازة من الضلال و الفساد، وعلى متن سبيل من الرشاد و الصلاح (13).
أيها القانتون :ومع هذه الأجواء التي تنتشر في نواحي المعمورة، إثر هذا النسيم العليل، والنهر الفضيل، الذي هو من العلل دواء، والشكوك شفاء، ينسف الشبهات، ويحجب الشهوات، ويصلح القلوب، ويرضي علاّم الغيوب، وهو شرف الزمان، وختم الأمان، هناك من أفطرت جوارحه، وعُطِّلَت مصالحه، فأعد العُدَّة والعتاد، أنهم ،(الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ* فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ) ، مازال للشر معانق، وللخير مفارق، وللذنوب معاقرً، وللفسق مؤازر، ،أكلٌ للحرام، ونهش للحوم الخلق، قد أنشب فيها ضرسه، وطرق عليها جرسه، نهبَ الحقوق، وأكل الأموال، وخان الأمانة، وزورٌ وكذب، تبعًا لشعبان ورجب، وتزويرٌ للوثائق، وفتلٌ للحرائق، وعكوف على القنوات، ومضاجعة للشهوات المحرمة، -واعجباه-كأنَّ رمضان لم يهل هلاله، ولم تتضوَّع خلاله، ، ويكأنَّ القلوب فارغةٌ، والضلالة بازغة، ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ. ) (14)، قال قتادة ومجاهد : نزلت في كل مبطن كفرا أو نفاقا أو كذبا أو إضرارا، يظهر بلسانه خلاف ذلك، فهي عامة، (ويشهد الله) أي يقول: الله يعلم أنى أقول حقا وهو يكذب (15) . قال القرطبي : (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا) (16) (سعى) بحيلته وإرادته الدوائر على الإسلام وأهله (17) ، وقال مجاهد: المراد أن الظالم يفسد في الأرض فيمسك الله المطر فيهلك الحرث والنسل. وفى الحديث: (إن الناس إذا رأوا الظالم ولم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده) (18) (19)
أيها التائبون: هم يفسدون في الأرض، قد اعتلوا مراكب الهوى، ونأوا عن شط الهدى، فلا النفوس نفوس الأقربين، ولا الآثار آثار التائبين، (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) (20) حرموا أنفسهم الصيام ولذته، والقيام وأنسه، طلقوا رياض السعادة، ومرابع الخير، وخطى السائرين، وأكف المتضرعين، كلامهم ركيك الإسناد، وضعيف العماد، خبت الجذوة واستفحل الرماد (والله لا يحب الفساد)،قال سعيد بن المسيب: قطع الدراهم من الفساد في الأرض. قال القرطبي رحمه الله : الآية تعم كل فساد كان في أرض أو مال أو دين ، ( فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ ) (21) فبين أنه أهلك جميعهم إلا قليلا منهم كانوا ينهون عن الفساد . غيهم يعبث، وشرهم يلهث، وفسادهم مُصِرٌّ أن يلبث، والله يقول: ( تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا ) (22) ومع هذا الفساد يزيدون الخصومة والشدة، ويكثفون القوة والحدة، قد احترف رطن الكلام، وسرقة الأقدام، (وهو ألدّ الخصام)، أي : شديد الخصومة لك ولأتباعك لعداوته لك، (23) شديد القسوة في المعصية جدل بالباطل ، يتكلم بالحكمة ويعمل بالخطيئة . (24) أشد المخاصمين خصومة، ذو جدال، إذا كلمك وراجعك رأيت لكلامه طلاوة وباطنه باطل (25) . وفي الحديث : (أن أبغض الرجال إلى الله الألدّ الخصم) (26) . قال الشربيني : يظهر الظلم حتى يمنع الله تعالى بشؤم ظلمه القطر فيهلك الحرث والنسل (27)، كم ممن أمل أن يصوم هذا الشهر فخانه أمله، ورهن ضد عمله، فصار قبله إلى ظلمة القبر كم من مستقبل يوما لا يستكمله، ومؤمل غدا لا يدركه، إنكم لو أبصرتم الأجل ومسيره، لأبغضتم الأمل و غروره، واعلم بأنه لا يتم حسنُ الكلامِ إلى بحسنِ العملِ، كالمريض الذي قد علمَ دواء نفسهِ، فإذا هو لم يتداو به لم يغنهِ علمهُ (28)، واعلم بأن أغنى الناس أكثرهم إحساناً. قال رجلٌ لحكيمٍ: ما خيرُ ما يؤتى المرء؟ قال: غريزةُ عقلٍ. قال: فإن لم يكن؟ قال: فتعلمُ علمٍ. قال: فإن حرمهُ؟ قال: صدقُ اللسانِ قال: فإن حرمهُ؟ قال: سكوتٌ طويلٌ. قال: فإن حرمه؟ قال: ميتةٌ عاجلةٌ (29) .
——————————————————————————–
(1) أخلاق الوزيرين – (1 / 9)
(2)مقامات القرني – (2 / 76)
(3) سورة الشورى ، آية : 11 .
(4)أمالي القالي – (1 / 1)
(5) سورة آل عمران ، آية : 102 .
(6) سورة الحشر ، آية : 18 .
(7)مقامات القرني – (3 / 57)
(8)صحيح مسلم باب فضل الصيام (3 / 158)
(9) سورة السجدة ، آية : 17
(10)البيان والتبيين – (1 / 454)
(11)أخرجه البخاري في الأدب
(12)لطائف المعارف – (1 / 158)
(13)ادب الخواص – (1 / 1)
(14)سورة البقرة ، آية : 204
(15)تفسير القرطبي – (3 / 15)
(16) سورة البقرة ، آية : 204
(17) تفسير القرطبي – (3 / 16-17)
(18)رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح وابن ماجه والنسائي وابن حبان في صحيحه
(19)تفسير القرطبي – (3 / 17)
(20)الاعراف : 182
(21) سورة هود ، آية : 116 .
(22) سورة القصص ، آية : 83 .
(23)وقال قتادة
(24)قال القرطبي
(25)تفسير القرطبي – (3 / 16)
(26)تفسير السراج المنير (1 / 116)
(27) تفسير السراج المنير – (1 / 116)
(28)الأدب الكبير والأدب الصغير – (1 / 11)
(29)الأدب الكبير والأدب الصغير – (1 / 9)