ذكر الله للشيخ عبدالله بن سعد السبر

الحمد لله الذي زين بذكره ألسن الذاكرين وأظهر من جميل أسمائه وصفاته وأفعاله ما سَرَّ به قلوب العارفين، فأثنى عليه بها المفردون الموحدون من الأولين والآخرين , سبحانه وتعالى سبحانه عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته، أحمده تعالى وأشكره فهو أهل الثناء والمجد والمستحق للحمد كله ,وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وعلى آله ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين أما بعد :
عباد الله : عباد الله اتقوا الله وأكثروا من ذكره فإن ذكره سبحانه قوت قلوب الذاكرين وهو قرة عيون الموحدين وهو عدتهم الكبرى وسلاحهم الذي لا يبلى وهو دواء أسقامهم الذي متى تركوه أصيبت منهم المقاتل فانتكسوا على أعقابهم خاسرين.
إذا مرضنا تداوينا بذكركم ونترك الذكر أحياناً فننتكس
فبالذكر يستدفع الذاكرون الآفات ويستكشفون الكربات وتهون عليهم المصيبات فإليه الملجأ إذا ادلهمت الخطوب وإليه المفزع عند توالي الكوارث والكروب به تنقشع الظلمات والأكدار وتحل الأفراح والمسرات.
أيها المؤمنون
إن ذكر الله – جل وعلا – من العبادات الميسورة التي لا عناء فيها ولا تعب، وتتأتى للعبد في معظم أحواله، ومع سهولتها ويسرها هي عظيمة الأجر، جليلة القدر، فعن أبي الدرداء قال: قال رسول الله {ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم ؟ قالوا بلى يا رسول الله، قال: ذكر الله} ,و وروى مسلم في صحيحه عن سعد بن أبي وقاص قال: {كنا عند رسول الله فقال: أيعجز أحدكم أن يكسب كل يوم ألف حسنة ؟ فسأله سائل من جلسائه: كيف يكسب أحدنا ألف حسنة ؟ قال يسبح مائة تسبيحة، فتكتب له ألف حسنة، أو تحط عنه ألف خطيئة}
عباد الله لقد أمر الله تعالى به المؤمنين بالذكر فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً﴾( ) وقال تعالى: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ﴾( ). وقد أثنى الله سبحانه وتعالى في كتابه على الذاكرين فقال تعالى: ﴿إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ إلى أن قال: ﴿وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً﴾( ) , ومما يظهر فضل الذكر وعلوَ مرتبته ما أخرجه الترمذي عن عبدالله بن بسر أن رجلاً قال: يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثرت عليَّ فأخبرني بشيء أتشبث به قال: ((لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله))( ). ومما يدل على ذلك أن الله تعالى أمر المؤمنين بأن يذكروه قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم فقال تعالى: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ﴾( ). وهكذا كان النبي فعن عائشة رضي الله عنها قالت: ((كان رسول الله يذكر الله على كل أحيانه))( ).
أيها المؤمنون اعلموا أن أعلى مراتب الذكر الذي أمر الله به هو ما تواطأ فيه القلب واللسان واعلموا أن هذا الفضل العظيم والأجر الكثير ليس معلقاً على ذكر الشفة واللسان فحسب بل لا يثبت هذا الأجر الموعود إلا على ذكر يتواطأ فيه القلب واللسان فذكر الله إن لم يخفق به القلب وإن لم تعش به النفس وإن لم يكن مصحوباً بالتضرع والتذلل والمحبة لله تعالى فلن يكون سبباً لتحصيل هذه المزايا والفضائل.
وقد يسأل المرء ما سر تفضيل الذكر على سائر أنواع وأعمال البر مع أنه خفيف على اللسان ولا يحصل به تعب على الأبدان ؟
فالجواب أن سر هذا التفضيل هو أن الذكر يورث يقظة القلب وحياته وصلاحه ولذلك قال النبي : ((مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت))( ) فالذكر حياة القلوب وصلاحها فالذكر للقلب كالماء للزرع بل كالماء للسمك لا حياة له إلا به. فإذا حييت القلوب وصَلَحت صلحت الجوارح واستقامت قال النبي : ((ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب))( ) متفق عليه.
عباد الله:
إن للذكر فضائل ياعباد الله ومنها أنه يرضي الرحمن جل وعلا، ويجلب للقلب الفرح والسرور كما أنه يطرد الشيطان ويقمعه ويكسره ويزيل الهم والغم عن القلب.
ومن فوائد الذكر: أنه يورث القلب المراقبة والإنابة، ويزيل الوحشة بين العبد وبين ربه تبارك وتعالى، وغير هذا من الفوائد كثير حتى قال ابن القيم في الوابل الصيب: ” وفي الذكر أكثر من مائة فائدة “.
فهو مفتاح لكل خير يناله العبد في الدنيا والآخرة فمتى أعطى الله العبد هذا المفتاح فقد أراد أن يفتح له، ومتى أضله بقي باب الخير مرتجا دونه.
ومن أجل هذه المعاني كان النبي يذكر الله على كل أحيانه في ليله ونهاره، وسره وإعلانه، وعند الخاصة والعامة، وكان يذكر الله إذا أوى إلى فراشه، أو أراد جماع أهله، أو أراد دخول الخلاء أو بعد الخروج منه، أو عند الوضوء أو بعده، أو بعد الصلاة، أو عند المطر، أو عند هبوب الريح، أو عند لبس الثوب، أو عند الدخول إلى المسجد، أو الخروج منه، وغير ذلك من أحواله .
والذكر يؤثر على القلب فيأنس الذاكر بربه وخالقه، ويشتغل بما ينفعه ويصلح تعبده، وينتهي عما يغضب الرب تبارك وتعالى فتصلح الجوارح بعد ذلك فلا نظر إلا فيما يرضي الله، ولا سمع إلا لما يحبه الله، ولا مشي إلا لمراضي الله، ولا بطش إلا لله؛ فيكون العبد لله وبالله، وتنفتح له أبواب الخيرات من الفضائل والعبادات، وتوصد دونه أبواب الشر والمنكرات.
وهذا ما عرف عن السلف الكرام، والأئمة الأعلام، أنهم كانوا للخير سباقين، وعن الشر معرضين، وما ذاك إلا لأنهم اشتغلوا بذكر الله جل وعلا في أكثر أحوالهم، يقول شيخ الإسلام: ” الذكر للقلب كالماء للسمك فكيف يكون حال السمك إذا فارق الماء ؟ ” مجموع الفتاوى ( 10 / 85 ).
والأذكار النبوية متضمنة للثناء على الله، والتعرض للدعاء والسؤال؛ كما في الحديث: {أفضل الدعاء الحمد لله} ( ) قيل لسفيان بن عيينة: كيف جعلها دعاء ؟ قال: أما سمعت قول أمية بن الصلت لعبد الله بن جدعان يرجو نائله:
أأذكر حاجتي، أم قد كفاني
إذا أثنى عليك المرء يوما
حياؤك ؟ إن شيمتك الحياء
كفاه من تعرضه الثناء
فهذا مخلوق. واكتفى من مخلوق بالثناء عليه من سؤاله، فكيف برب العالمين ؟. ” اهـ مدارج السالكين ( 2 / 452 و 453 ) بتصرف.
والأذكار تتفاوت فضائلها بتفاوت معانيها فذكر الله بكلمة التوحيد ” لا إله إلا الله ” التي لأجلها خلق العالم، وأرسلت الرسل، وأنزلت الكتب، وقام سوق الجنة والنار، وانقسم الناس إلى مؤمنين وكفار، أعظم أجرا، وأجل قدرا مما سواه، قال {أفضل الذكر لا إله إلا الله} ( ) أخرجه الترمذي ( ح 3383 )، وابن حبان في صحيحه ( ح846 ).
فعليكم عباد الله بالإكثار من ذكره سبحانه وعمارةِ الأوقات والأزمان بالأذكار والأوراد المطلقة والمقيدة كقول: لا إله إلا الله فإنها من خير الأقوال وأحبها إلى الله أو قول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر فإنها خير مما طلعت عليه الشمس وغير ذلك من الأقوال التي تنمّى بها الحسنات وترفع بها الدرجات وتوضع السيئات, فإن قصرت همتك وضعفت قوتك عن تلك المنازل الكبار فلا أقل من أن تحافظ على الأذكار المؤقتة والمقيدة.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي أمر بذكره ورتب على ذلك عظيم أجره والصلاة والسلام على أعظم الناس ذكراً لربه نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على دربه.
أما بعد. .
فاعلموا أيها المؤمنون أن من فوائد الذكر أن الله عز وجل يباهي بالذاكرين ملائكته كما في حديث أبي سعيد الخدري أن النبي قال لجماعة اجتمعوا يذكرون الله: ((أتاني جبريل فأخبرني أن الله يباهي بكم ملائكته))( ).
واعلم أخي الحبيب أن الإعراض عن ذكر الله يُورث في القلوب القسوة و الغلظة والعياذ بالله يقول تعالى: (( أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه ، فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله ، أولئك في ضلال مبين)) وذكر الله ” به يزول الوقر عن السماع، و البُكم عن الألسن ، و تنقشع به ظلمة الأبصار. زين الله به السنة الذاكرين ، كما زين بالنور أبصار الناظرين. فاللسان الغافل كالعين العمياء ، والأذن الصماء و اليد الشلاء” فلنجدد التوبة لله تعالى ولنداوم على ذكر الله آناء الليل و أطراف النهار لعل الله يكتبنا من الذاكرين كثيرا و الذاكرات وأن نكون بذكر الله تعالى ممن يذكر الله خاليا فتفيض عيناه فيستحق بذلك الظل الكريم كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث السبعة الذين يُظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله و ذكر منهم : ” …. و رجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه” اللهم إنا نسألك لسانا ذاكرا و قلبا خاشعا و بدنا على البلاء صابرا
طيب بذكر الله فاك فإنـــــــه *** لأجــــلّ مافــــاهت به الأفواه
طُفئت مصابيح العقول فكلنا *** يُمسي ويُصبح في ظلام هـواه