سيرة خير البشر __ للشيخ سعد السبر

الحمد لله ما أقبل الغيث وأمطر، ونهض النبت وأزهر ، وطفح الموج على البحر ، وسال الفيض إلى النهر ، نحمده ، عدد حبات الرمل ،وسهام النَّبل ،وطلوع البدر ، وشروق الفجر ، ونشكره ، ما تلاقت الطيور بالأصداح، وتنامت خيوط الصباح ، وتهادى على الأصداء حي على الفلاح ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً عبده ورسوله ، الرحمة على الناس ظهوره ، والباعث إلى الخلق نوره ، لينذرهم يوما تنوخ لهوله المطايا ، وتكشف فيه الخبايا ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الكرام ، ذوو المواقف الجسام ، ما أقبل صبحٌ بنهاره ، وتهافت وبلٌ بِغِمَارِه ، أما بعد: فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله عز وجل فهي وِصَاية الأولين والآخرين ، والحصن الحصين ، والحبل المتين ، (يَا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) ، (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا ) .
أيها المسلمون: وبعد أول لقاء مع رسول وجبريل عليه السلام، تُرك محمد
فترة من الزمن ، ليهدأ عنه الروع ، ولكن بعد تلك الفترة ، كان هو موعد اللقاء الثاني ، ومن دون سابق .
يُصَوِّرُ لحظة ذلك الموقف ، صاحب الحدث محمد فيقول ( جَاوَرْتُ بِحِرَاء شهراً فلما قَضَيْت جواري هبطت فلما استبطنت الوادي نوديت فنظرت عن يميني فلم أرَ شيئاً ونظرت عن شمالي فلم أرَ شيئا ونظرت أمامي فلم أرَ شيئا ونظرت خلفي فلم أرَ شيئا فرفعت رأسي فرأيت شيئا فإذا الملك الذي جاءني بِحِرَاء جالسا على كرسي بين السماء والأرض فَجَثَيْتُ منه رُعْبَا حتى هويت إلى الأرض فأتيت خديجة فقلت زمِّلوني زمِّلوني دثِّروني وصُبُّوا عليَّ ماءً باردا فنزلت حينها (يا أيها المدثر قم فأنذر وثيابك فطهر والرجز فاهجر))رواه البخاري .
فقام من حينها ، ملبياً قول الله (قم فأنذر) ، فكانت هذه الإنطلاقة ، هي البدايةُ لرحلةٍ تَغْمُرُهَا المعاناة وروح المكابدة التي ستكون قاسيةً ومؤلمة.
أيها المؤمنون : وحتَّى هذه اللحظة ، نَسْتَشِفُّ دروساً ربَّانية ، لِعِلِّة إرسالِ الرُّسِلِ إلى البَشَرِيَّة, وهذا تصريحٌ من الله تعالى لسبب إرسال محمد حيث قال:(وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) ، وقال الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ، في غرار إرسال الرسل (أنَّ الله خلقنا ورزقنا ، ولم يتركنا هملا ، بل أرسل إلينا رسولا ، فمن أطاعه دخل الجنة ومن عصاه دخل النار) (أ.هـ) ، وكذلك أيضا ، أنَّ إرسال الرسل للبشارة بالتوحيد ، والنذارة عن الشرك ، قال الله تعالى(وما نُرْسِل المُرسَلينَ إلا مُبَشِّرينَ ومُنْذِرِين ) ، ومن أسباب إرسال الرسل هو إقامة الحجة على الخلق لتجزى كل نفس بما كسبت ، (إنّاِ أَرسَلنَا إِليكم رَسَولاً شَاهِداً عليكم كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرعَوْنَ رَسُولاَ فَعَصَى فِرْعَونُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذَاً وَبِيلاَ) ، ومن الأسباب أيضا أن أرسلهم أسوةً للناس على مكارم الأخلاق وأفضلها ، وأنبل الآداب وأحسنها ، (لَقَد كَانَ لَكُمْ فِيْ رَسُولِ اللهِ أٌسْوة حَسَنة لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَاليَومَ الآخِر وذكَرَ الله كَثِيرَا ) ، ولقد كانت الجاهلية في ضياع لانهاية لطريقه ، وجهل مُحَتَّم ، قد غرست كل أواصر الغل والحقد بين صدورهم ، فلا لُغَة يتعاملون بِها سوى السيف ، فكان لزاماً أن ترسل الرسل ، لكي تنتشلهم من هذا العرق الميت ، وهذه الجهالة القاحلة ، ودلهم على الأعمال التي تزكي النفس الإنسانية وتغرس فيها بذور الخير ، قال تعالى : (هُوَ الذي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّين رَسُولا مِنْهُم يَتْلُوا علِيهِم آيَاتِهِ ويُزَكيهِم وَيُعلِّمهم الكِتَابَ والحِكْمَة وإنْ كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِين) ، وبهذا يتبين أن الله سبحانه وتعالى ، لم يبعث الرسل إلا لحكمة أرادها ، ولغاية واضحة.
فلامناص من الوقفة الحاسمة ، ومن اللحظة التي نندم فيها ولكن الوقت قد ذهب حينها ، والقطار قد فات ، فاليوم عمل ولاحساب ، وغداً حساب ولاعمل ، فأعِدُّوا لذلك الموقف العصيب . …………
أيُّها المؤمنون : انطلق الرسول لينشر التوحيد في أصقاع المعمورة ، ويُؤسِّسَ بنيانها ، ولأنَّ قومه كانوا جفاةً غلاةً ، لادين يجمعهم ، ولا عادات تَحَكُمُهُم ، كان من الحكمةِ البدءُ في الدعوة سرَّاً ، فبدأ من منزله أولا ، فكان من أول الداخلين ضمن قافلة محمد زوجته خديجة بنت خويلد رضي الله عنها ، ومولاه زيد بن حارثة ، وعلي بن أبي طالب ، وأبو بكر الصديق رضي الله عنهم أجمعين ، وبعد فترة من الزمن ، رأت قريش تزايد عدد الداخلين إلى الإسلام ، فأخذت تعقد اجتماعات ومناوشات للإسقاط بمحمد وإتباعه ، وبتزايد أتباع محمد ، تستشيط قريش غضبا ، ويكثف الجهد ، ولكن سواد محمد ينتشر إلى خارج مكة ، وأوثان قريش وأصنامها هُجرت ، محمد قد استجلب معظم مكة ، وقريش مكتوفة الأيدي ، ولكن بعد جهد مُضْنِي ، أَسْفرت قريش عن حلٍّ للتخلص من الإسلام ، وهو قتل الرأس الذي جلب لهم كلّ هذا الدَّمار ، محمد ولكنهم لم يجدوا إليه سبيلا ، لأن عمه أبو طالب قد كان له ظهرا ، فلم يستطيعوا النفوذ إليه .
وبعد تأكد النبي من تعهد أبي طالب بحمايته،وهو يبلغ عن ربه،صعد النبي e ذات يوم على الصفا ، فعلا أعلاها حجرا ، ثم هتف : (ياصباحاه) . وكانت كلمة إنذار تخبر عن هجوم جيش أو وقوع أمرٍ عظيم ، ثم جعل ينادي بطون قريش ، ويدعوهم قبائل قبائل :(يابني فهر، يابني عدي، يابني فلان ، يابني فلان ، يابني عبد مناف ، يابني عبد المطلب ) . فلما سمعوا قالوا: من هذا الذي يهتف ؟ قالوا: محمد , فأسرع الناس إليه ، حتى إن الرجل إذا لم يستطع أن يخرج إليه أرسل رسولا لينظر ماهو ، فجاء أبو لهب وقريش.
فلما اجتمعوا قال (أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي بسَفْح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم أكنتم مُصَدِّقِيّ)
قالوا نعم ، ماجرَّبنا عليك إلا صدقا ، قال (فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، وإنما مثلي ومثلكم كمثل رجل رأى العدوَّ فانطلق يُحذِّرُ أهله ، فخشى أن يسبقوه فجعل ينادي : ياصباحاه )
ثم دعاهم إلى الحق وأنذرهم من عذاب الله فخص وعمَّ فقال ( يامعشر قريش ، اشتروا أنفسكم من الله ، أنقذوا أنفسكم من النار ، فإني لا أملك لكم من الله نفعاً ولاضرا ، ولا أغني عنكم من الله شيئا . ) ثم أخذ يعدد أسماء القبائل وينذرهم
ولما تمَّ هذا الإنذار ، اِنْفَضَّ الناس وتفرقوا ، وقال أبو لهب حينها : تبَّاً لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا ؟ فنزلت : ( تَبَّت يَدَا إبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ) ). رواه البخاري ومسلم. ومن ذلك الحين ، وشوكة الإسلام تشتدّ ، وقريش لم تجد حلاًّ سوى أن تعذِّب أتباع محمد ، وأمَّا هو فقد بسط نفوذه في أرجاء الجزيرة والحبشة حتى وصل إلى الشام . …..


