مصــارف الزكــاة للدكتور محمد المصري

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث للعالمين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ,,, أما بعد :
فلقد أهتم الشارع الحكيم بأمر مصارف الزكاة ولم يجعل مهمة توزيعها وفق ما يراه الناس ويقدرونه بل حدد أصناف المستحقين واعتبر ذلك إحدى فرائضه الصادرة عن سعة علمه وتمام حكمته جل وعلا .
ولقد روي أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أعطني من الصدقة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو فجزأها ثمانية أجزاء فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك حقك ” .
ويلاحظ أن سد حاجة هؤلاء الأصناف يحقق التوازن بين الفئات الاجتماعية المختلفة مع ضمان الحد الأدنى لمعيشة كل فرد داخل الدولة ولذلك لما قام المسلمون بأداء واجبهم في زمن عمر بن عبدالعزيز ــ رحمه الله ــ صار عماله يبحثون عمن يدفعون له الزكاة فلم يجدوه وهو الأمل في المسلمين هذه الأيام لا سيما في هذه البلاد القائمة على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وهو الظن بقادتها وعلى رأسهم خادم الحرمين الشريفين وولي عهده وسمو النائب الثاني حفظهم الله وقد بدأ الله تعالى بالأهم في هذه المصارف فبدأ, فالفقراء هم الذين ليس لهم دخل إطلاقاً , والمساكين هم الذين لهم دخل لكنه لا يكفيهم وهذان الصنفان هما أولى من تصرف لهم الزكاة بل ربما تبادر إلى الذهن أنهم المقصودون بالزكاة كلها ومن أمثلة هذا المصرف العاجزين عن الكسب بسبب العجز البدني كأصحاب الأمراض المزمنة والشيخ الفاني والأعمى والأيتام والأرامل واللقطاء والمطلقات والمعلقات الذين لا مال ولا مصدر دخل لهم يكفيهم ولا عائل شرعاً ينفق عليهم فيعطى كل واحد من هؤلاء من الزكاة بقدر كفايته بل ما يغنيه حتى يصيب سِداداً من عيش إذا ثبت فقره أو مسكنته بشهادة الثقات أو بالاشتهار ويكفي في هذه المسألة غلبة الظن لحصول براءة الذمة وقد أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجيتن في حجة الوداع وهو يقسم الصدقة فسألاه فرفع فيهما البصر وخفّضه فرآهما رجلين جلدين ــ نشيطين ــ فقال : ” إن شئتما أعطيتكما ولاحظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب ” .
فإن كان مشتهراً بالغنى ثم افتقر فلا بد أن تشهد له البينة على تلف ماله أو إعساره لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ” إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة ذكر منهم , ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجى من قومه لقد أصابت فلاناً فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش أو قال سِداداً من عيش ” .
وهذا الحديث دليل لمن قال بأن الفقير والمسكين يعطى قدر ما يكفيه على الدوام , وقدر ما يخرجهما من الفقر أو المسكنة إلى الغنى وهو فعل النبي صلى الله عليه وسلم وفعل الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم من بعد , حتى قال عمر إذا أعطيتم فأغنو يعني من الصدقة ولا يعلم له مخالف من الصحابة رضي الله عنهم .
ولأن الله تعالى أثبت الصدقات للفقراء والمساكين دفعاً لحاجتهم وتحصيلاً لمصلحتهم , فالمقصود من الزكاة سد الخلة ودفع الحاجة , وفي هذا علاج جذري ــ إن شاء الله ــ لمشكلة الفقر وفيه عمل بنصوص الشريعة ومقاصدها من فرض الزكاة ألا وهو تحقيق التكافل الاجتماعي للأمة وإعادة التوازن بين طبقات المجتمع .
ولكن هذا التصرف يحتاج إلى تنسيق تام بين المحسنين من جهة وبين هؤلاء وبين الدولة والمؤسسات الخيرية من جهة أخرى حتى تتكاتف الجهود لمحاربة الفقر والمسكنة أو التقليل منها وحتى يسد الباب أمام الطامعين المحتالين الذي يأكلون أموال غيرهم بالباطل .
وليس من الفقراء والمساكين هؤلاء الذين يمتهنون سؤال الناس في المساجد والشوارع والأماكن العامة ويتخذون من التسول عملاً بل يجب أن يؤخذ على أيديهم أما العاملون عليها فهم الذين يبعثهم الإمام أو نائبه لجمع الصدقات وضبطها وإيصالها إلى الإمام أو إلى مستحقيها من الأصناف الثمانية ويُلحق بهم كل من باشر جمع الصدقات بأمر محق والذي يعطيهم من الزكاة إنما هو الإمام أو نائبه ولا علاقة للأفراد بهذا المصرف , كما أنه لا يدخل فيه الوكيل الشرعي أو المسؤول عن جمع الصدقات وتوزيعها تبرعاً كأئمة المساجد وغيرهم فإنهم مجرد أمناء يوصلون ما بأيديهم دون أي تقصير , ولاحق لهم بها إلا أن يكونوا من الفقراء والمساكين فلا بد أن يستأذنوا صاحب المال .
وأما المؤلفة قلوبهم فهم الذين يُتحرى فيهم بتفقدهم أن يصيروا مسلمين أو كفار يخشى على المسلمين من شرهم أو قوم يخشى على إيمانهم وهؤلاء جميعاً إعطاؤهم من مهام الإمام أو نائبه والصحيح أن سهمهم باق ما دامت الحاجة له باقية .
وهؤلاء الأصناف الأربعة اشترط جمهور الفقهاء تمليكهم أموال الزكاة بأنفسهم سواء عن طريق الأفراد أو عن طريق الدولة وهذا القول هو الأقرب لنصوص الشرع والأبرأ لذمة المكلف .
أما الأصناف الأربعة الآخرون فهم المكاتبون والمراد بهم إعانة المكاتبين المسلمين على فك رقابهم وشراء المماليك والمسلمين ثم عتقهم ودفع أموال الزكاة لتخليص أسرى المسلمين علماً أن ملك اليمين قد انتهى منذ منتصف القرن الماضي ولم يبق إلا دفع أموال الزكاة لتخليص أسرى المسلمين .
والغارمون هم الذين يتحملون ديوناً لغيرهم ويطالبون بأدائها وليس لهم دخل أو مال يستطيعون سداده وسواء كان الدين لمصلحة نفسه أو لمصلحة الآخرين , أي للمصلحة العامة كمن يستدين لإطفاء نار الفتنة بين قبيلتين أو قريتين أو دولتين أو مجموعتين متقاتلتين من المسلمين أو كان غارماً بسبب ضمانه لحقوق غيره بأن يكون الغارم قد ضمن غيره في حقٍ لطرف ثالث .
وسداد ديون هؤلاء من أموال الزكاة يحقق مصالح جمة للأفراد والمجتمع ومنها : –
1- إعادة الثقة للغارم الذي أرقته ديونه بسداده عنه مما يدفعه للعمل والتفاعل مع أفراد المجتمع .
2- تُطمئن الدائنين الذين يبذلون أموالهم لإقراض غيرهم وإعانتهم على تحقيق مصلحتهم .
3- العمل على إشاعة وتثبيت أخلاق المروءة والتعاون من خلال القرض الحسن .
4- تشجيع أعمال المصلحين والمحسنين وأصحاب المروءات الذين يغرمون لإصلاح ذات البين .
وأما سبيل الله فهم الغزاة المتطوعون الذين ليس لهم رواتب نظامية وقد أضاف إليه بعض العلماء دعم الجهاد في سبيل الله بمعناه الواسع الذي قرره الفقهاء بما مفاده حفظ الدين وإعلاء كلمة الله ويشمل مع القتال الدعوة إلى الإسلام والعمل على تحكيم شريعته ودفع الشبهات التي يثيرها خصومه عليه وصد التيارات المعادية له .
وأما ابن السبيل فالمراد به المسافر الذي نفذت نفقته أو انقطع عنه صحبته وعجز عن بلوغ دياره , لأنه ليس له ما يرجع به إليها .
والإسلام الذي شرع السفر فأوجبه حيناً واستحبه حيناً وأباحه حيناً , يريد أن يثبت الأمان في نفوس أتباعه , فحين ينقطع احدهم في الطريق أو يحتاج إلى السفر أحياناً فإنه يجد من إخوانه من يمدون له يد العون بدون منّ ولا أذى , وقد نص الفقهاء على أن ابن السبيل يعطى ما يبلغه مقصده أو موضع ماله إن كان له في طريقه مال فيهيأ له المركب المناسب لحاله بحسب الحاجة مع الطعام المناسب .
ولا يشترط الفقهاء في هؤلاء الأصناف الأربعة تمليكهم وإنما سد الحاجة المراد دعمها .
وقد نص الفقهاء على أن من صرف الزكاة في غير هذه المصارف الثمانية فقد عصى ربه ولم تبرأ ذمته ووجب عليه أن يدفعها إلى أي من هذه الأصناف مرة أخرى فلا يصح صرفها في بناء المساجد أو تمويل المشاريع الخيرية من حفر بئر أو بناء مدرسة فهذه مجالها الصدقات المستحبة لا الزكاة المفروضة .
وقد أجاز جمهور الفقهاء صرف الزكاة إلى صنف واحد من هذه الأصناف الثمانية، لأن هذا يرتبط بحاجات وظروف كل صنف لكن على وجه العموم إذا كان مال الزكاة كثيراً فينبغي تعميم المال على المصارف الثمانية إذا وجدت أو على الموجود منها , وإذا كان قليلاً فيعطى مصرف واحد دون غيره , وإذا كان أحد الأصناف الثمانية في حاجة ماسة وظاهرة فينبغي العناية والصرف إليه لا سيما الفقراء والمساكين والغارمين فإنهم أول الأصناف الذين تصرف لهم الزكاة فإن كفايتهم وإغناؤهم هو الهدف الأول للزكاة ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في وصيته لمعاذ : ” فإن هم أجابوك لذلك فأخبرهم أن في أموالهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم ” .
ويجب على الأغنياء تقوى الله سبحانه والبعد عن المجاملات في دفع الزكاة وإن كان أحدهم لا يحسن صرفها وجب عليه الاستعانة بمن يحسن صرفها وإيصالها لمستحقيها لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، وكما أنه يحتاط لدنياه فيجب عليه أن يحتاط لدينه، كما يجب على السائلين أن يتقوا الله ويعلموا أن هذه الزكاة حق للأصناف الثمانية فإن لم يكن منها لم يجز له أن يطلبها ولا أن يأخذها سواء من الدولة والله أسأل أن يبارك في أموال أغنيائنا وأن يسد بهذه الأموال حاجات فئات المجتمع المسلم وأن يتقبلها منهم ويعوضهم خيراً منها وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه .