مواكَبة الحدث && للشيخ عمر الغبيوي

الحمد لله الذي أدام لنفسِه كمالَ البقاء ، وحكَمَ على خلقهِ بِحُكمِ الفناء ، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لاشريكَ له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليما كثيرا إلى يوم الدين أما بعد : فإنَّ مِن بَدَهيَّات ما تُقِرُّ بهِ شريعة الإسلام ، وتقتَضي العملَ بِموجبِه ، والغاية لتحْقيقِه ، هو: (الحِسُّ الوجداني الفطري) لقلوب المسلمين مُجتمِعة ، وإنَّ هذَا الأمر ، هو أمرٌ لا يقبلُ التصنُّعَ والمحابَاة ، فمن قَرَّ في قلبِه هذا الأمر ، كان لِزاماً على طبعِهِ أنْ يُظْهرهُ ، وأن يوضِح معالمَهُ على واجِهةِ المَرء ، وأمَام مِرآتِه ، ومن فَرِغَ منهُ هذا اللازِم ، فالعكْسُ بالعكس ، تَوجَّبَ على نواياهُ وعلى خَبايَا سرِيرتهِ ، أن تُظْهِرَ ما يُكِنُّهُ فؤادهُ على ظاهرهِ ، وأمَامَ مَرْأَى الجمِيع ، وقد تأكَّدَ هذا فِي غيرِ مَوْضِع ، فقد قالَ الحقُّ سبحانَه 🙁 واعتصِموا بحبْلِ الله جمِيعاًَ ولا تفرَّقوا واذكُروا نِعمةَ الله عليكُم إِذْ كُنتم أعداءاً فألَّفَ بين قلوبِكم فأصْبحتم بنعمتهِ إخوانَا …) آل عمران (102) .
وقالَ الحافِظ ابن كثير في هذه الآية 🙁 وهذا السِّياق في شأن الأوس والخزرَج ، فإنه كانت بينهُم حروبٌ في الجاهلية ، وعداوة شديدة وضغائن ، فلما جاءَ الله بالإسلامِ صاروا إخوانا متحابين بجلال الله متواصلين في ذات الله متعاونين على البر والتقوى ).أهـ
ووَردَ في السنَّةِ من حديثِ النُّعمان بن بشير أنُّه قال : قال رسول الله : ( مثلُ المؤمنينَ في توادّهم وتراحُمِهم وتعاطُفِهم ، مثل الجسد ، إذا اشتكَى منهُ عضوٌ تداعى له سائِرُ الجسدِ بالسَّهرِ والحُمَّى ) رواه البخاريُّ –الفتح 10(6026) مسلم (2585) واللفظ له .
وإنَّ المُحترَزات التي يضَعُهَا المُتَصنِّع لنفسهِ ، خشْيَةَ أن يُكشَف ، لا تدومُ طويلاًَ ، فلذا يتَّخِذُ بعضهم –معنًى لا مُعتقداً- في تَصرُّفاتهِ ، مبدأَ التُّقْيَا عندَ الرَّافِضة ، فيُظهرُ لك ما يجلِب مرضاتك ، ويدفع سخطَك ، بِخلافِ ما يِقرُّ في داخله ، وإنَّ الأزَمات أو المواقف العُظمى ، كَفِيلةٌ بأن تكشِفَ زيفَ هؤلاء ، وهي المَسْؤولَة عن إزَالةِ هذا القناعِ عن وجهِ لابسِيه ، فهاهو الرسول ينادِي بينَ أزِقَّة المدينة ، حي على الجِهاد ، فهنا انكشفت الحقيقة ، فهاهم المنافقون قد تسرَّبوا إلى مسارب المدينة ونواحيها ، هروباً من الجِهادِ وسَطوتِه .
وكُلُّ هذا لعلَّةٍ واحدة ، وهي أنَّ السَّيلََ إذا اشتدَّ مجراه ، وتسلَّطت قوَّتُه ، فإنَّه يجرِفُ ويعتُّ في طريقِهِ ، أيُّ شيءٍ لا يقوى على الصُّمود .
وقد قال الشَّيخُ أحمد شاكر رحمه الله في تحقيقهِ لسننِ الترمِذي (1/431) : وأوَّلُ مقصدٍ للإسلامِ ، ثمَّ أجلُّه وأخطَرهُ ، توحيدُ كلمةِ المسلمين ، وجمعُ قلوبِهم ، عن غايةٍ واحدة ، هي إعلاءُ كلمةِ الله ، وتوحيدُ صفوفِهم للعمَلِ لهذه الغاية . أهـ
وقدْ قيلَ في الشِّعر سابقاً :
تَأبَى الرِّماحُ إذا اجتمَعن تكَسُّراً
وإذا افترَقنَ تكَسَّرتْ أفرَادَا
وقد وردَ عن ابن مسعودٍ في قوله ( واعتصموا بحبل الله جميعا ) قال : حبلُ الله الجماعة . الدر المنثور .السيوطي (2/285) .
فمَن وجَد في نفسِهِ حياداً أو تقصِيراً ، أو أمالَت بهِ الأيَّام إلى مُعْتركِ الزلَّة ، فليُعاود طريقَه ، ولْيُقوِّم من جلْسَتِه ، فإنَّ انتقَاضَ هذا في قرارة النَّفس ، من النَّواقص التي تُثْلَبُ على المرء ، ويُعابُ لأجلِها ويَأثَم ، ومن قالَ في نفسِه أنَّ هذه عادةُ اعتدًّها ، فيقال لهُ ، أنَّ الإسلامَ أقرَّ جميع العاداتِ الجاهليَّةِ ، واستثنَى منها ، مايُناقِض مقاصِد الشريعة ، فهذا يُردُّ ولايُعبَرُ منهُ إلى العاطِفة ، أو الممَال النَّفسِي الغرِيزِي .
وقد أُورِدَ في فُصولِ الإسلام وأحكامِهِ ، آياتُ كثيرة ، وآثارٌ وافرة ، وكُلُّهَا تدَلُّ على لزومِ الجمَاعة والإعتِصامِ بها ، وأنَّ بُغْية التَحلُلِّ منها ، والعدولِ عنهَا ، ومُحاولُة التخلُّص مِن علائِقهَا ، هو نقصٌ في عقيدَة المَرء ، وفي كَمالِ إيمَانِه ، وقدْ أوردَ الإمامُ محمد بن إدريس الشَّافعي رحمه الله تعليقاً في غاية مقاصِد الإسلام ، من صلاة الجماعة ، وقد بيَّن أنَّ من المقاصدِ المُسْتلَبة من وجوب صلاة الجماعة ، هو توحيد صفوف المسلمين ، وإعلاء كَلِمة الإسلام وأهلِه ، وفي الحديثِ عن أبي الدرداء قال: سمِعتُ رسول الله يقول : ( ما مِن ثلاثةٍ في قريةٍ ولا بدو لاتُقامُ فيهم الصَّلاة ، إلا استحوذَ عليهم الشيطان ، فعليك بالجماعة ، فإنما يأكل الذئب القاصيةَ من الغنم ) . رواه أبو داوود والنسائي .
فإيرِادُ النَّبي لِهذا المِثال الرَّائع ، هو حقيقةٌ مُشَاهدَة من الواقع الذي نعيشُه ، فَكذلك العدوّ لايتَّجِه إلا لمَن هو خارج القطيع ، فيخلو به حتّى يحيل معتقداته ، من ثمَّ يَترُكْه لِيرْجِع ، وهكَذا دَوالَيْك ، حتَّى تُنْهَش الأمّة ، وتتفرَّق الكلمة ، وبهذا لا يَقومُ للإسلامِ صرحٌ ، ولا تَقوى لهُ شوكَة .
وقدْ جاءَ من حديث ابن عبَّاس أنه قالَ : قال رسول : ( يد اللهِ مع الجَماعة ) . رواه التِّرمذي (2166) حديث حسن غريب .
وقد مرَّت هذه الأزمةُ المعاصِرة ، وهذه اللهفةُ الحاضَرة ، وقد ترجَّل من ترجَّل ، وتخَاذلَ من تخَاذل ، فمن كمالِ الإيمان ، ومن غايته ، هو إعانةُ المسلمين ، والنهوضُ معهم ، قلباً وقالباً ، بكلِّ ما أوتي من قوة ، فهذه ليست قضية شعوبٍ ودُوَل ، بل هي قضية إسلام ، وفي صُلبِ حربِه ، فمن قوَّض إسلامه في هذه الأزمة ، فليراجع سريرته ، التي أمسَت عالقة في عراقيب الهوى ، وفي براثن الشهوات ، وقد قال الإمام الغزالي رحمه الله : ( ينبغي أن تكون حاجة أخيك مثل حاجتك أو أهمّ من حاجتك ، وأن تكونَ متفقِّدا لأوقات الحاجة ، غيرُ غافل عن أحواله ) .أهـ الإحياء مع بعض الحذف (3/2175) .
وقد قال ابن علاّن معلِّقا على حديث رسول : ( ومن نفَّس عن مؤمن كُربة … الحديث) وفيه عظيم فضلِ قضاء حوائج المسلمين ، ونفعِهم بما تيسَّرَ من علم ، أو مال ، أو جاه ، أو نصح ، أو دلالة على خير ، أو إعانة بنفسِه ، أو وساطته ، أو دعائِه له بظهر الغيب ) دليل الفالحين (3/34) .
وفي الحديث عن أبي موسى عن النبي قال : ( المؤمن كالمؤمن يشدُّ بعضه بعضا ، وشبَّك بين أصابعه ) . رواه البخاريُّ .الفتح (2446).
فهنا بيَّن النبي أنَّ هذه الصفة لا تكمنُ إلا في مؤمن ، فمن فِرَغتْ نفسهُ من هذا المطلب ، فليراجع إيمانه ، فكلُّ مؤمنٍ في أيّ بلادٍ كَان ، ومن أيّ جنسٍ كَان ، توجَّب عليهِ أن يُضمِرَ في نفسهِ ، حبَّاً وموالاةً لكلِّ مُؤمن ، وإعانةً له قدر المستطاع ، وتكون البليَّةُ أعظمُ ضرراً ، وأشدَّ وقْعَاً في القلب ، إذا كان المرءُ يعلم ذلك ، ومع كُلِّ هذا يتعامى ويتغافل عن جَادَّةِ الحقِّ والصواب ، فهذا قد طُبِع على قلبهِ وخُتم ، فلا يعرفُ معروفاً ، ولا ينكرُ منكرا ، نسأل الله العافية والسلامة .
إن كُنتَ لا تدرِي فَتِلكَ مُصيبَةٌ
وإن كُنتَ تدرِي فالمصِيبةُ أعظمُ
وقد قال الله سبحانه وتعالى : ( إنَّ هذه أُمَّتكم أُمَّةٌ واحدة وأنا ربُّكم فاعبدُون ) .الأنبياء (92)
ورويَ أيضاً عن عمر بن الخطَّاب أثراً قال فيه : ( عليك يإخوان الصِّدق ، فعِشْ في أكنافِهم ، فإنَّهم زَيْنٌ في الرَّخاء ، وعُدَّةٌ في البلاء ) .كتاب الإخوان (116)
وقد يتبادرُ إلى أذهانِ ضعفاء النُّفوس ، أنَّ غاية مراد الشارع الحكيم من توحيد كلمة المسلمين والحثِّ عليها ، هو خشيةُ اضمحلالِ قَبَسِ الإسلامِ بعد اختفاءه ، وهذه بادرةٌ فاسدةٌ ، بحديث جابر بن سمرة عن النبي أنَّهُ قال (لن يبرحَ هذا الدّين قائماً ، فإنما يقاتلُ عليه عصابةٌ من المسلمين ، حتّى تقوم السَّاعة ). رواه مسلم (1922)
لَفْتَـة : قد كُتِب في غيرِ صحيفة ، تهَكُّماً واستفزازاً للإسلامِ وأهله في حربِ غزَّة ، بإيرادِ بعض الثوابتِ الدينيَّة ، من نصرِ الله للمؤمنين الصَّابِرين ، وتأييده لهم ، بأنّ هذا الكَلام هو هُراء ، ولو كان صحيحاً لاتَّضحت إماراتهُ في هذه الحرب فها أنتم تدعُون وليسَ ثمَّتَ شيء ، فَليُعْلَم بأنَّ قَائِلي هذا الكَلام هُمْ قَومٌ قَدْ عَمِيت قُلوبهم ، وطُمسَت أبصارهُم عِن الحق والعياذ بالله ( إنَّها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) ولنعلَم أيضاً أنَّ قضية غزَّة ، هي مصيبة من المصائب ، ورزيَّةٌ من الرزايا ، فلا يتوجّب على المسلم ، القنوط من رحمة الله ، واليأس من روح الله .
وقد قال ابن كثير رحمه الله : في قوله تعالى (والذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا له راجعون ).
أَيْ تَسَّلوْا بقولهم هذا عمَّا أصابهم ، وعَلمُوا أنهم مُلْكٌ لله ، يتَصرَّف في عبيده بما يشَاء ، وعلِموا أنَّهُ لا يضيعُ مثقالُ ذرَّةٍ يوم القيامة ، فأحْدَثَ ذلك أنَّهُم عبيدُه ، وأنَّهُم إليه راجعون في الدَّار الآخرَة ) . تفسير ابن كثير .
ولكن كما أسلفتُ وقُلت 🙁 الأيام والمواقِف العُظمَى كفيلةٌ بأن تَكشِف زَيف هؤلاء )
وقد قال تعالى : ( وكَذَلِك نُصَرِّف الآياتِ ولتَستَبينَ سبيل المُجرِمين )
وَقيلَ أيضَا:
إِذَا اخْتَلَطَتْ دُمُوعٌ فِي خُدُودٍ تَبَيَّنَ مَنْ بَكَى مِمَّنْ تَبَاكى
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
كَتَبه / عمر فهد الغبيوي