مكتبة الشيخ سعد السبر

نقد ميزانية 2012 & للشيخ سعد السبر

الحمد خلق فسوق ، وقدر فهدى ، وأطعم وأسقى ، وأغنى وأقنى ، أحمده وأشكره على نعم تترى ورزق مُوفى ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له في أُولوهيته وربوبيته ، وفي أسمائه وصفاته جل وعز عن شبيه وند ونظير ومثيل ( ليس كمثله شئ وهو السميع البصير ) ()، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله السراج المنير والبشير النذير صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الغر الميامين وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين أما بعد فأُوصيكم ونفسي بتقوى الله جل وعز فهي غناكم وزهدكم وفضلكم ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) ()

أيها المسلمون : لقد صدرت ميزانية هذا العام بفضل الله وهي تحمل الخير من الله ثم من الولاة وفقهم الله ، وتحمل البُشرى والبشائر ، والسعة والذخائر ، فلك الحمد ربنا على نعمك العظيمة وآلا ئك الجسيمة ، وندعو لاولاتنا ونسأل الله لهم التوفيق والسداد، فهي ميزانية خيرٍ وفضلٍ عمّ الجميع ورزقٍ وفيرٍ من الجبار جل جلاله يحتاج منا شكرا وحمدا وذكرا (اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) () .

أيها المؤمنون : إن تنمية الوطن والمواطنين مطلوبٌ شرعيٌ دليلٌ على رُقي الدولة وحرصها على بث الخير والفضل بين شعبها ومقيمها ، ولكن هذه الميزانية تحتاج مع شكرنا وحمدنا وقفة تأمل في حالنا ونظرتنا إلى الدنيا وحرصنا عليها ، لاشك أن الله أمر بأن لاننسى نصيبنا من الدنيا ( ولاتنس نصيبك من الدينا ) () ولكن أن تكون الدنيا همنا وهدفنا وغايتنا ومنتهى آمالنا فهذا ممنوع غير مشروع ، فبعضن الناس كأنه سيحيى بعد أن كان ميتا وبعضهم فكر وقدر وخطط ؛ ليفسد بما سيدخل عليه ورسم مشروع الإجازة بالسفر والفجور ، وبعضهم كأنه سيموت بفقد بدرهم وقنطار ، ويظن أنه سيُخلد ولن يموت .

أيها الإخوة : إن الشريعة زهّدتنا في الدنيا وذمت الدنيا وأهلها، فقد كثُر في القرآن الإشارةُ إلى الزهد في الدنيا ، وإلى ذم الرغبة في الدنيا ، قال تعالى : { بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى } ()، وقال تعالى : { تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة } ()، وقال تعالى في قصة قارون : { فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا الصابرون } إلى قوله : { تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة

للمتقين } () ، وقال تعالى : { وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع } ()، وقال : { قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا } () . روى مسلم ” عن جابر : أن النبي – صلى الله عليه وسلم – مر بالسوق والناس كنفيه (2) ، فمر بجدي أسك ميت ، فتناوله ، فأخذ بأذنه ، فقال : (( أيكم يحب أن هذا له بدرهم ؟ )) فقالوا : ما نحب أنه لنا بشيء ، وما نصنع به ؟ قال : (( أتحبون أنه لكم ؟ )) قالوا : والله لو كان حيا كان عيبا فيه ؛ لأنه أسك ، فكيف وهو ميت ؟ فقال : (( والله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم )) () .

وخرج الترمذي (5) من حديث سهل بن سعد ، عن النبي – صلى الله عليه وسلم – ، قال : (( لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ، ما سقى كافرا منها شربة )) ()، وعن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ( إن الدنيا خضرة حلوة وإن الله سيخلفكم فيها لينظر كيف تعملون فأتقوا الدنيا وأتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت النساء ) () ،وعن حكيم بن حزام قال : سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم فأعطاني ثم سألته فأعطاني ثم سألته فأعطاني ثم سألته فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم يا حكيم ان هذا المال خضر حلو فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه وكان كالذي يأكل ولا يشبع واليد العليا خير من اليد السفلى ()

أيها المتقون : المؤمن المقتصد من الدنيا يأخذ من حلالها و هو قليل بالنسبة إلى حرامها قدر بلغته و حاجته و يجتزي من متاعها بأدونه و أخشنه ثم لا يعود إلى الأخذ منها إلا إذا نفذ ما عنده و خرجت فضلاته فلا يوجب له هذا الأخذ ضررا و لا مرضا و لا هلاكا بل يكون ذلك بلاغا له و يتبلغ به مدة حياته و يعينه على التزود

( خذ من الرزق ما كفا … و من العيش ما صفا )

( كل هذا سينقضي … كسراج إذا انطفا ) ()

قال الفضيل بن عياض : أصل الزهد الرضا عن الله – عز وجل – . وقال : القنوع هو الزهد ، وهو الغنى . () فمن حقق اليقين ، وثق بالله في أموره كلها ، ورضي بتدبيره له ، وانقطع عن التعلق بالمخلوقين رجاء وخوفا ، ومنعه ذلك من طلب الدنيا بالأسباب المكروهة ، ومن كان كذلك ، كان زاهدا في الدنيا حقيقة ، وكان من أغنى الناس ، وإن لم يكن له شيء من الدنيا كما قال عمار : كفى بالموت واعظا ، وكفى باليقين غنى ، وكفى بالعبادة شغلا () .

وقال ابن مسعود : اليقين : أن لا ترضي الناس بسخط الله ، ولا تحمد أحدا على رزق الله ، ولا تلم أحدا على ما لم يؤتك الله ، فإن الرزق لا يسوقه حرص حريص ، ولا يرده كراهة كاره ، فإن الله تبارك وتعالى – بقسطه وعلمه وحكمه – جعل الروح والفرح في اليقين والرضا ، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط () .

وفي حديث مرسل أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان يدعو بهذا الدعاء : (( اللهم إني أسألك إيمانا يباشر قلبي ، ويقينا(4) صادقا(5) حتى أعلم أنه لا يمنعني رزقا قسمته لي ، ورضني من المعيشة بما قسمت لي )) () .وقد روي عن ابن عمر : أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان يقول في دعائه : (( اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك ، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا )) () وهو من علامات الزهد في الدنيا ، وقلة

الرغبة فيها ، كما قال علي – رضي الله عنه – : من زهد في الدنيا ، هانت عليه المصيبات .

قال وهيب بن الورد : الزهد في الدنيا أن لا تأسى على ما فات منها ، ولا تفرح بما آتاك منها ()، قال ابن السماك : هذا هو الزاهد المبرز في زهده .وهذا يرجع إلى أنه يستوي عند العبد إدبارها وإقبالها وزيادتها ونقصها ، وهو مثل استواء المصيبة وعدمها كما سبق .

قال أحمد بن أبي الحواري : قلت لسفيان بن عيينة : من الزاهد في الدنيا ؟ قال : من إذا أنعم عليه شكر ، وإذا ابتلي صبر . فقلت : يا أبا محمد قد أنعم عليه فشكر ، وابتلي فصبر ، وحبس النعمة ، كيف يكون زاهدا ؟! فقال : اسكت ، من لم تمنعه النعماء من الشكر ، ولا البلوى من الصبر ، فذلك الزاهد () .

عن أبي واقد الليثي ، قال : تابعنا الأعمال ، فلم نجد شيئا أبلغ في طلب الآخرة من الزهد في الدنيا () كتب عمر إلى أبي موسى : إنك لن تنال عمل الآخرة بشيء أفضل من الزهد في الدنيا ()

إخوة العقيدة : هذه هي شريعتكم زهدتكم في الدنيا لأنكم مهما عُمرتم فستموتون ومهما مُتعتم ستُفارقون وتُفارقون ، فأعِدوا ليوم القدوم عملا , وللقبر أُنُسا بصالحاتكم

وكتبه سعد بن عبدالله السبر

إمام وخطيب جامع الشيخ عبدالله الجارالله رحمه الله

والمشرف العام على شبكة السبر

www.alsaber.net

3/2/1433

——————————————————————————–

() سورة الشورى ، آية :11.

() سورة آل عرمران ، آية : 102.

() سورة سبأ ، آية : 13 .

() سورة القصص ، آية :77

() سورةالأعلى ، آية : 16 – 17

() سورة الأنفال ، آية : 67 .

() سورة القصص ، آية : 79 – 83 .

() سورة الرعد ، آية : 26 .

() سورة لنساء ، آية : 77 .

() رواه مسلم 8/210 – 211 ( 2957 ) .

وأخرجه : أحمد 3/365 ، والبخاري في ” الأدب المفرد ” ( 962 ) ، وأبو داود ( 186 ) ، والبيهقي 1/139 عن جابر بن عبد الله ، به .

()رواه الترمذي ( 2320 ) من حديث سهل بن سعد ، به .و انظر : جامع الترمذي عقيب ( 2320 ) ، على أن في إسناده عبد الحميد بن سليمان ضعيف ، وقد تابعه من هو مثله فلعل الترمذي صححه لشواهده ، والله أعلم .

()قال شعيب الأرنؤوط : إسناده صحيح على شرط مسلم في صحيح ابن حبان بتحقيق الأرناؤوط (7/ 150)

()سنن الدارمي (2/ 400)قال حسين سليم أسد : إسناده صحيح

()لطائف المعارف (ص: 333)

()أخرجه : الدينوري في ” المجالسة ” ( 960 ) و( 3045 ) ، وأبو عبد الرحمان السلمي في” طبقات الصوفية ” : 10 .

()أخرجه : البيهقي في ” شعب الإيمان ” ( 10556 ) عن عمار بن ياسر ، مرفوعا .

()(3) أخرجه : ابن أبي الدنيا في ” اليقين ” : 118 ، والبيهقي في ” شعب الإيمان ” ( 209 ) .

()أخرجه : ابن أبي الدنيا في ” اليقين ” : 112 .

()أخرجه : الترمذي ( 3502 ) ، والنسائي في ” عمل اليوم والليلة ” ( 402 ) ، والحاكم 1/528 ، والبغوي ( 1374 ) من حديث عبد الله بن عمر ، به ، وقال الترمذي : (( حسن غريب )) .

()أخرجه : أبو نعيم في ” الحلية ” 8/140 .

()أخرجه : أبو نعيم في ” الحلية ” 7/273 .

()الزهد لأبي داود (1/ 406)

()الزهد لوكيع (1/ 5،)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى