خطب الشيخ سعد السبر

أظلمت مرآة القلب

الحمد لله الذي ما علت أقداره عباده إلا بتعظيم حرماته وشعائره ولا حظي بولاية أهل العرفات إلا بالتوبة إليه من ركوب العصيان وكبائره وصغائره ، أحمده على ما أرانا من واضحات قرب المناسك وأنقذنا من غامضات حفر المهالك ،حمد معترف بأنه لمقاليد السموات والأرض مالك ليس له في مثقال ذرة من جميع الممالك قسيم ينازعه ولا مشارك وأشهد أن لا إله إلا الله أغنى علم يقينها عن علم القياس وأشهد أن محمدا عبده ورسوله إلى الجنة والناس صلى الله عليه وعلى آله صلاة تكثر عدد الأنفاس وعلى سائر آله وصحبه الفطن الأكياس المطهرين بمياه التقى من جميع الأدناس وسلم تسليما كثير إلى يوم بعث الناس . أما بعد فأُوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله عز وجل فهي تقيكم البأس يوم الحسرة واليأس ( ولباس التقوى خير ) () ، (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) ()

أيها الموحدون : مر رمضان كطيف خيال بعد أن تزودنا فيه من الخيرات والصالحات قرآنٍ وقيامٍ صومٍ وتوبةٍ عن الآثام ، وعمرةٍ وتفطيرِِ الصُوام، ثم دخل شوال فصيام ستٍ وتواصٍ بالثبات بعد رمضان .

أيها الأحبة: انقضى بعد رمضان شهر فماذا قدمنا وماذا أخرنا ، فهل نحن في الطاعة متقدمون أم أننا عن الخير راغبون ؟ فأين من يختم القرآن ويقوم آناء الليل ساجدا يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه ؟ أين من يتصدق ويصوم ؟ أين من يدعو ويصل ويتوب وإلى ربه يؤوب ؟؟؟ أين من جد في رمضان ؟ ها هو يعود وينتكص إلا من ثبته الله ، ولنعلم عباد الله أن الذنوب تغطي على القلوب، فإذا أظلمت مرآة القلب لم يبن فيها وجه الهدى، ومن علم ضرر الذنب استشعر الندم () .

فوا عجبا لمن يأمن وكم قد أُخذ آمنُ من مأمن، ومن تفكر في الذنوب علم أن لذّات الأوزارِ زالت والمعاصي بالعاصي إلى النار آلت، ورُب سَخطٍ قارنَ ذنبا فأوجب بُعدا وأطال عُتبا، وربما بُغت العاصي بأجله ولم يبلغ بعض أمله، وكم خير فاته بآفاته، وكم بلية في طي جناياته. قال لقمان لابنه: يا بني لا تؤخر التوبة فإن الموت يأتي بغتة. وكما قيل لا تؤدي التوبة أحدًا إلى النار، ولا الإصرار على الذنوب أحدًا إلى الجنة () .

أيها المتقون : علينا أن نراجع النفس وندقق في العمل ، ونجدد العهد ونتوب فربكم يُحب التوابين والمتطهرين ، ويثني عليهم {التائبون العابدون الحامدون} ()، و أمر الله سبحانه وتعالى بالتوبة فقال (وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون ) ()،(يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا) ()،ووعد القبول فقال: (وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ) ()، وفتح باب الرجاء فقال: (لا تقطنوا من رحمة الله ) ()، وأخبر بأن من لم يتب فإنه ظالمٌ (ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون ) ()

أيها المسلمون : نبيكم حثّ على التوبة ورغّب في الأوبة ،فعن ابن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ” يا أيها الناس توبوا إلى ربكم، فإني أتوب إليه في اليوم مائة مرة ” ()،وعن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال( لله أفرح بتوبة عبده المؤمن من رجل نزل بأرض دوية مهلكة معه راحلته، فطلبها حتى إذا أدركه الموت قال: أرجع إلى مكاني الذي أضللتها فيه فأموت فيه، فأتى مكانه فغلبته عنياه، فاستيقظ فإذا راحلته عند رأسه عليها طعامه وشرابه وزاده وما يصلحه، فالله أشد فرحا بتوبة عبده المؤمن من هذا براحلته وزاده ) ().

أيها القانتون : إن سلفكم يتواصون بالتوبة والأوبة ؛ ليرجعوا ويؤوبوا . قال عمر بن الخطاب: ” جالسوا التوابين فإنهم أرق شيء أفئدة ()،وسئل عمر عن التوبة النصوح، فقال: ” التوبة النصوح: أن يتوب الرجل من العمل السيئ , ثم لا يعود إليه أبدا ” ()، وكان ابن مسعود يقول في دعائه: «خائفا مستجيرا تائبا مستغفرا راغبا راهبا» (). قال الشعبي قال: ” التائب من الذنب كمن لا ذنب له، ثم قرأ: {إن الله يحب التوابين، ويحب المتطهرين} () ()،قال الحسن «يا ابن آدم، ترك الخطيئة أيسر من طلب التوبة» ()

وقال عمر بن عبد العزيز«اللهم زد في إحسان محسنهم وراجع بمسيئهم إلى التوبة وحط من وراءهم بالرحمة» () ،قيل لبعض العلماء ما علامة التوبة؟ قال: الوجل من الذنب ” () ،قال أبو علي الروذباري رحمه الله: ” من الاغترار أن تسيء فيحسن إليك فتترك التوبة توهما أنك تسامح في الهفوات “!.

إخوة الدين : طوبى لمن غسل درن الذنوب بتوبة، ورجع عن خطاياه قبل فوت الأوبة، وبادر الممكن قبل أن لا يمكن، من رأيت من آفات دنياه سلم، ومن شاهدته صحيحا وما سقم، وأي حياة بالموت لم تنختم، وأي عمر بالساعات لم ينصرم، إن الدنيا لغرور حائل، وسرور إلى الشرور آيل، تردي مستزيدها وتؤذي مستفيدها، بينما طالبها يضحك أبكته ويفرح بسلامته أهلكته، فندم على زلله إذ قدم على عمله، وبقي رهين خوفه ووجله، وود أن لو زيد ساعة في أجله، فما هو إلا أسير في حفرته، وخسير في سفرته، وهذه وإن كانت صفة من عنا نأى، فكذا نكون لو أن العاقل ارتأى ().

يا من يرجو الثواب بغير عمل , ويرجئ التوبة بطول الأمل , أتقول في الدنيا قول الزاهدين وتعمل فيها عمل الراغبين , لا بقليل منها تقنع , ولا بكثير منها تشبع , تكره الموت لأجل ذنوبك وتقيم على ما تكره الموت له تغلبك نفسك على ما تظن ولا تغلبها على ما تستيقن , لا تثق من الرزق بما ضمن لك ولا تعمل من العمل ما فرض عليك , تستكثر من معصية غيرك ما تحقره من نفسك.

أما تعلم أن الدنيا كالحية , لين لمسها والسم الناقع في جوفها , يهوي إليها الصبي

الجاهل ويحذرها ذو اللب العاقل , كيف تقر بالدنيا عين من عرفها , وما أبعد أن يفطم عنها من ألفها ()

يا من قد وهى شبابه , وامتلأ بالزلل كتابه , أما بلغك أن الجلود إذا استشهدت نطقت , أما علمت أن النار للعصاة خلقت , إنها لتحرق كل ما يلقى فيها , فيصعب على خزنتها كثرة تلاقيها , التوبة تحجب عنها , والدمعة تطفيها , قال صلى الله عليه وسلم:” لو أن قطرة من الزقوم قطرت في الأرض لأمرت على أهل الدنيا معيشتهم ” فكيف بمن هو طعامه لا طعام له غيره!

أسفا لأهل النار قد هلكوا وشقوا , لا يقدر الواصف أن يصف ما قد لقوا , كلما عطشوا جيء بالحميم فسقوا , وهذا جزاؤهم إذ خرجوا عن الطاعة وفسقوا , قُطعِوا والله بالعذاب ومُزقوا , وأفرد كل منهم عن فريقه وفُرقوا , فلو رأيتهم قد كلبوا في السلاسل وأُوثِقوا واشتد زفيرهم وتضرع أسيرهم وقَلقُوا () فأين نصيرهم إذ هلكوا وأين من أضلهم ووعدوا قد ضلوا وأضلوا .

يا من على التوبة عزم , غير أنه كلما بنى أن يلوذ بنا هدم , يسعى إلى الهدى فإذا رأى جيفة الهوى جثم , ويحك إطلاق البصر في سور الحذر ثلم , عجبا لأمنك وأنت بين فكي جلم , كأنك بك تتمنى العدم , وتبكي على تفريطك بندم , إلى كم هذا التواني كم كم وكم , وإياك والدنيا فما تشفي من قرم , لمن تحدث لقد نفخنا من غير ضرم () .

أيها المنيبون احضروا في هذه الساعة قلوبكم واغسلوا بمياه التوبة ذنوبكم واستغفروا ربكم فانه يغفر ذنوب المستغفرين واعتذروا إليه من تقصيركم فانه يقبل عذر المعتذرين واستنصروه على من بغى عليكم فما أسرع نصرته إلى المنتصرين من كان مقيد الجوارح عن محارم الله فهو رأس الخائفين ومن كان لا يسكن بقلبه إلى شيء سوى الله فهو سلطان العارفين فارغبوا في القرب من الله ()

كتبه : سعد بن عبدالله السبر

إمام وخطيب جامع الشيخ عبدالله الجارالله رحمه الله

4/11/1433

salsaber@hotmail.com

http://twitter.com/SAADALSABER

——————————————————————————–

() سورة الأعراف ، آية: 26.

()

()التبصرة لابن الجوزي (1 / 34)

()الأدب الصغير والأدب الكبير (ص: 40)

() سورة التوبة ، آية:112.

() سورة النور ، آية: 31.

() سورة التحريم ، آية: 8.

() سورة الشورى،آية: 25.

() سورة الزمر ، آية :53.

() سورة الحجرات ، آية:11.

() صحيح على شرط مسلم رواه أحمد في المسند وقال الألباني صحيح . انظر حديث رقم : 7091 في صحيح الجامع .

() رواه مسلم في باب في الحض على التوبة والفرح بها حديث رقم 2744(4 / 2103) .

()الزهد لوكيع (ص: 544)

()الزهد لهناد بن السري (2 / 454)

()الزهد لوكيع (ص: 545)

() سورة البقرة، آية:222.

()الزهد لوكيع (ص: 542)

()الزهد لأحمد بن حنبل (ص: 226)

()الزهد لأحمد بن حنبل (ص: 236)

()الفوائد والزهد والرقائق والمراثي (ص: 35)

()التبصرة لابن الجوزي (1 / 35)

()التبصرة لابن الجوزي (1 / 62)

()التبصرة لابن الجوزي (1 / 83)

()التبصرة لابن الجوزي (1 / 200)

()التذكرة في الوعظ (ص: 27)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى