خطب الجمعهخطب الشيخ سعد السبر

هاهنا التوكل – خطب الجمعة

شبكة السبر – خطب الجمعه

كتبه د/  سعد بن عبدالله السبر

إمام وخطيب جامع الشيخ عبدالله الجارالله رحمه الله

الحَمْدُ للهِ تجلَّى للقُلُوبِ بِالعَظَمَة ، فَخَشَعتْ لَهُ بِدَاخِلِ العَتَمَة ، فَلا الأبْصَارُ تَبلغُ كُنْهَه ، وَلا الأيَادِي تُطُولُ مَنْحَه ، ولا الكَلام يَنُوطُ مَدْحَه ، هُوَ الأوَّلُ بِلا ابْتِدَاء ، وَالآخِرُ بِلا انْتِهَاء :

وَلعلَّ مَا فِي النَّفسِ مِنْ آيَـاتِهِ عَجَبٌ عُجَابٌ لَوْ تَرَى عَيْناكَ

وَالكَوْنُ مَشْحُونٌ بَأَسْرَارٍ إِذَا حَاوَلتَ تَفسيراً لهَا أَعْيـَاكَ

نَحْمَدُهُ حَمْدَ مَنْ تَعثَّر بالبِلَى فَكَسَاه ، وَمَنْ تَأثَّرَ بَالسُّقْمِ فَعَافَاه ، وَنشْكُرُهُ عَلَى أَنْعَامِهِ الَّتِي تَمُور ، وَأفْضَالِهِ المَمْدُودَةِ بِلا فُتُور ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إلا الله وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لهُ فِي أُلوْهِيَّتِهِ وَفِي رُبُوبِيَّتِهِ وَفِي أَسْمَائِهَ وَصِفَاتِهِ ، تَنزَّهَ عَنِ النِّد وَعَنِ الشَّبِيِهِ ، وَعَنِ المَثِيلِ وَعَنِ النَّظِيرِ ، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ وَهَوَ السَّمِيعُ البَصِير ، وَأشْهَدُ أّنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُولُه ، فَلْقَةُ القَمَرِ التي أَنَارَتْ الظَّلْمَاء ، وَغَيْمَةُ العَزَائِمِ التي سَقَتْ الجَدْبَاء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ الأطْهَارِ النُّجَبَاء ، وَسَلَّمَ تَسْلِيْمَاً كَثِيْراً إِلَى يَوْمِ الدِّين .

أَمَّا بَعْد: فَأُوصِيْكُم أَيُّهَا النَّاسُ وَنفْسِي بِتَقَوَى اللهِ عَزَّ وَجَلّ ، فَسَعَادَةُ القَلْبِ خَرَاجُهَا ، وَرِيَاضُ الجَنَّةِ نِتَاجُهَا ( وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ) ، ( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ ) .

أيُّهَا المُؤمِنُون : خُيُولٌ قَدْ أجْلَبَتْ ، ومُهَجٌ قَدْ أجْدَبَتْ ، سُحُبٌ تَلُوح ، وأُخْرَى تَرُوح ، الكِنَانةُ قَدْ اسْتَنْفَدَت النِّصَال ، وَالجُنُودُ قَدْ أَبْدَوا النِّضَال ، فَهَا هِيَ الحَرْبُ سِجَال ، غَدَاً سَتَنْهَالُ الأفْوَاجُ إِلَى أَبْوَابِ المَدَارِسِ ، لِيَأْخُذُوا عُصَارةَ جُهْدِهِم ، وَوِفَادَةَ أَتْعَابِهِم ، وَيَتَسَلَّمُوا نَتَائجَ الإمْتِحَانَات ، فَتَتَهَلَّلُ سَبُحَاتُ الوَجُوه ، ويَسْرِي فِيْهَا الشُّرُوقُ زُلالا ، وطَائِفَةٌ هُنَاكَ قَدْ فَعَلَت مَا بِوُسْعِهَا ، فلا النَّوْم ذَاقُوه ، ولا الإهْمَالُ سَاقُوه ، ولَكِن قُدِّرَ لهم غَيْرَ مَا أَرَادُوه ، وصَرَفَهُم دُوْنَ مَا أَمَّلُوا القَدَر ، فَلَمْ يُسَلِّمُوا بِهِ حُزْنَا ، ولَمْ يُسَلِّم بِهِ آبَائُهُم قَلَقاً عَلَى المُسْتَقْبَل فَأخَذَ أَحَدُ الفَرِيقَيْنِ يُثْبِتُ التُّهْمَة عَلَى الآخَر ، والآخَر يَطْرُدُهَا عَنْه ، فَاسْتَغْلَقَتْ عَلَيْهِم مَعَالمُ اليَأْس ، وَاسْتَوْلَتْ عَلَيْهِم إِمَارَاتُ الفَشَل ، فأخَذُوا يَجُرُّون أَسْمَال الذُّبُولِ ، وَضَيَاعُ المُسْتَقْبَل ، فَضُرِبَ بَيْنَهُم وَبَيْنَ الرِّزْقِ بَاب .

أِخْوَةَ العَقِيْدَة : لَقدْ وَرَدَ فِي السُنَّةِ مِنْ حَدِيثِ ابن هُبَيْرَة ، عَنْ عُمَر بنَ الخَطَّابِ  أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ يَقُول: ( لَوْ أَنَّكُمْ تَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرزق الطَّيرَ تَغْدُو خِمَاصاً وَتَرُوحُ بِطَاناً )

رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه . أي: تَوَكُّلاً حَقِيقِيَّاً تَعْتَمِدُونَ عَلَى اللهِ فِيه ، واعْتِمَاداً كَامِلاً فِي طَلَبِ رِزْقِكُمْ. وَيَقُولُ عُمَر بن الخَطَّاب  : (بَيْنَ العَبْدِ وبَيْنَ رِزْقِهِ حِجَاب , فَإن قَنِعَ وَرَضِيتْ نَفْسُه ، أَتَاهُ رِزْقُهْ ، وَإِن اقتَحَم وَهَتَكَ الحِجَاب ، لَمْ يَزِد فَوْقَ رِزْقِِه ) .

فَأينَ هُوَ مَعْنَى التَوكُّلِ في نُفُوسِنا؟ ، وأينَ هَوَ تَفْوِيضُ الأمْرِ إِلَى الله؟ بَعْدَ فِعْلِ الأسْبَاب .

فَمَا هي حقِيقةُ التوَكَّل ؟ وَمَا مفْهُومُه ؟

يَقُولُ ابن الجوزي عن بعضهم: أَنَّ التَوَكُّلَ هُوَ تَفْوِيْضُ الأمْرِ إِلَى اللهِ ثِقَةً بِحُسْنِ تَدْبِيرِهِ .

ويقُولُ ابنُ رَجَبٍ الحَنْبَلِي: هُوَ صِدْقُ اعْتِمَادِ القَلبِ عَلَى اللهِ عَزِّ وَجَلّ فِي اسْتِجْلابِ المَصَالِحِ وَدَفْعِ المَضَارّ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ كُلِّهَا.

وَيقُولُ ابْنُ حَجَر: وَقِيلَ التَوَكُّلُ هُوَ قَطْعْ النَّظَرِ عَنْ الأسْبَابِ بَعْدَ تَهْيِئَةِ الأسْبَاب.

فَلِمَاذَا بَعْدَ كُلّ هَذهِ الآثَار نُبْقِي في قُلُوبِنَا حَسْرةً تَصْرِفُنَا عَنْ صَفْوِ الحَيَاة إِلَى كَدَرِهَا ؟ وَنَجْعَلُ الشَّهَادات هيَ مَصْدَرُ رِزْقِنَا ، فلا مُسْتَقْبَلَ إِلا بِشَهَادَة ، فاسْمَع أَنْتَ أَيُّهَا الأبُ الحَانِي إلى جَوَابِ الحَسن البَصْرِيّ حِينَ سُئِلَ عَنْ سِرِّ زُهِْدِه فِي الدُّنيَا فَقَال: أَرْبَعَة أَشْيَاء عَلِمْتُ أَنَّ عَمَلِي لا يَقُومُ بِهِ غَيْرِي فَاشْتَغَلَتُ بِهِ ، وَعَلِمْتُ أَنَّ رِزْقِي لا يَذْهَبُ إِلَى غَيْرِي فَاطْمَأنَّ قَلْبِي ، وَعَلِمْتُ أّنَّ اللهَ مُطَّلِعٌ عَلَيِّ فِاسْتَحْيَيْتُ أَنْ يَرَانِي عَلَى مَعْصِيَة وَعَلِمْتُ أَنَّ المَوْتَ يَنْتَظِرُنِي فَأَعْدَدْتُّ الزَّادَ للِقَاءِ رَبِّي .

وَارْعِ سْمَعَكَ أَنْتَ أَيُّها الطَّالِبُ المَغْمُور، ورَاقِب المَشْهَد. رَأَى إِبْرَاهِيْمُ بن أَدْهَم رَجُلاً مَهْمُومَاً فَقَال لَه: أَيُّهَا الرُّجُل إِنِّي أَسْأَلُك عَنْ ثَلاثٍ تُجِيْبُنِي قَالَ الرَّجُلُ: نَعَم.

فَقَالَ لَهُ إِبْرَاهِيْمُ بن أَدْهَم: أَيَجْرِي فِي هَذَا الكَونِ شَيءٌ لا يُرِيْدُهٌ الله؟ قَالَ : كََلا

قَالَ إِبْرَاهِيْم : أَفَيَنْقُصُ مِنْ رِزْقِكَ شَيءٌ قَدَّرَهُ اللهُ لَك؟ قَالَ: لا

قَالَ إِبْرَاهِيْم: أَفَيَنْقُصُ مِنْ أَجَلِكَ لَحْظَةٌ كَتَبَهَا اللهُ فِي الحَيَاة؟ قَالَ: كَلا

فَقَالَ لَهُ إِبْرَاهِيْمُ بن أَدْهَم: فَعَلامَ الهَمُّ إِذَن؟

وقَد قَال الله تَعَالى : (وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ(22) فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ). ” فَإِذَا أَرَدْتَّ أَنْ يَكُونَ اللهُ وَكِيلَكَ فِي كُلِّ حَالٍ فَتَمَسَّك بَالتَوَكُّلِ فِي كُلِّ حَال.

(وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً ) .

وَإِذَا أَرَدْتَّ أَنْ يَكُونَ الفِرْدَوْسَ الأعَلَى مَنْزِلَك فَانْزِل فِي مَقَامِ التَوَكُّل (الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) “فَكُّلُّ مَخْلُوقٍ فِي هّذا العَالَم قَدْ قُدِّرَ لهُ رِزْقُهُ ، فلا يَيْأس وَلا يَقنَط مِن رَحْمَة الله ، وَلْيُحسِن الظنَّ بِرَبِّه وَفِي الحَدِيث ( أَنَا عِنْدَ ظَنَّ عَبْدِي بِي ) . قَالَ ابنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ الله فِي الفَتْحَ ” أَيْ قَادِرٌ عَلَى أَنْ أَعْمَل بِهِ مَا ظَنَّ أَنِّي عَامِلٌ بِه ” وَلَقَد كَانَ سَعِيدُ بن جُبَيْرٍ يِدْعُوَ رَبَّهُ فَيَقُول : ” اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ صِدْقَ التَوَكُّلِ عَلَيْك وَحُسْنَ الظَنِّ بِك “

يَقُولُ الشَّافِعِي :

فَفِيْ أَيَّ شَيْءٍ تَذَهُبُ النَّفْسُ حَسْرَةً وَقَدْ قَسَّمَ الرَّحمنُ رِزْقَ الخَلائِقِ

أَيُّهَا المُوَحِّدُون : إِنَّ تَعَلُّق النَّفْسِ بِأسْبَابِ الدُّنْيَا ، وكَوْن َغَايةِ مُرَادِها المُيُول إِلَى مُتَطَلَّبَاتِ العَيْشِ فِيْهَا ، واللًّهْث وَرَاءَ ذَلِك الهَدَف ، واستِجْلاب أسْبَابِه فَحَسْبْ ، دُونَ الإلْتِفَاتِ إلى الخِطَابِ القُرآني ، وَالوَعْد الرَّبَّانِي .

هَو مِن ضَعْفِ التَّوحِيد . فَيَتَوجَّبُ عَلَى المُسْلمِ أن يُوطِّدَ هَذا المَعْنَى فِي قَرَارَةِ نَفْسِه ، وأَن تَسْتَقِرَّ مَفَاهِيم التَوَكُّلِ في خَلَدِه ، فَعِنْدَهَا سَتَسْمُو الرُّوح إلى أرقَى مَعَاني العُبُودِيَّة ، وأسمَى مَرَاتِبِهَا ، فَتَكُون مَعَ الله في كُلِّ سَكَنَاتِهَا وَحَرَكَاتِهَا ، فَيَكُونُ نَتَاجُ هَذَا المَحْصُول ، (( هُوَ العَيْش مَعَ الله )) .

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى