مقالات الدكتور فارس العنزي

قوّي مناعتك بصيام رمضان

قوّي مناعتك بصيام رمضان

د. فارس العنزي

استشاري وأستاذ علم المناعة المشارك- كلية العلوم الطبية التطبيقية- جامعة الخرج

http://faculty.ksu.edu.sa/fqalenzi/arabic

خلق الله الإنسان علي هيئة جسد مكون من مجموعة من الأجهزة التي تعمل مع بعضها البعض في بتناسق مذهل تحت كل الظروف. والجسد هو وعاء الروح التي تلهم هذا الجسد الحياة، والنفس هي كل جسد ينبض بالحياة. وتتأثر النفس بالظروف البيئية المحيطة شاملة التعامل مع الناس في العمل وفي البيت وفي الشارع وكذلك من التعرض للبيئة المحيطة من هواء وماء وغذاء. ولأن الله خلق النفوس مختلفة، فإن كل منا يستجيب للظروف المحيطة بدرجات متفاوتة. فإذا ألم بنا إضطراب وقلق نفسي أو مرض ما ، فمنا من سوف يستشير أصدقائه أو يسأل أصحاب العلم من رجال الدين والأطباء باحثا عن السلام النفسي والبدني . وما الإضطرابات النفسية والبدنية هذه التي تصيبنا إلا تراكمات في إضطراب النفس والبدن طول شهور السنة أثناء العمل أو الدراسة، وإذا لم يتم أخذ هدنة من هذه الإضطرابات فإن التراكمات هذه تزيد عام بعد عام مؤدية إلي زيادة الإضطراب وتحولها أحيانا إلي أمراض نفسية أو جسدية خاصة أن معظم الأمراض الجسدية هي نتيجة نفسية لم يتم التعامل معها حين ظهورها.

حبا الله شهر رمضان بفضل عظيم علي باقي شهور السنة وذلك باختصاصه بنزول القرآن وفريضة الصوم وفضل العشر الأواخر وليلة القدر وتصفيد الشياطين والرحمة والسلام الذي يغمر المسلمين. ولذلك يحتفل المسلمون ايما احتفال بعد الاستفادة من كل هذه الفضائل. وقد ثبت علميا أن فريضة الصوم لها فؤائد عظيمة للصائم. والصوم ليس عقابا بل شعار للنفس والجسد من كل ما ألم بها طوال باقي شهور العام من وساوس شيطانية تؤذي النفس والبدن وخاصة الجهاز المناعي. فالحفاظ علي الصحة العامة للإنسان يحتاج إلي جهاز مناعي قوي يستطيع التصدي لأي عدوي ميكروبية دون ايذاء باقي أعضاء الجسد فالحفاظ علي جهاز مناعي قوي يتطلب نفس آمنة كلها سلام وطمائنينة وبدن خالي من المكونات الغذائية المؤذية، وأهمها السموم الدهون التي تترسب طوال شهور السنة والصوم يؤدي إلي سلام نفسي وسلام بدني يؤدي إلي حسن العلاقة مع الله والناس والبدن.

الخلايا المناعية حساسة جدا لأي تغيرات نفسية أو غذائية فهناك علم يسميPhsychoImmunology (علم الإضطرابات المناعية النفسية) وكذلك NeuroImmunology (علم الإضطرابات المناعية العصبية) حيث يوجد علي سطحها مستقبلات للجزيئات التي يفرزها الجهاز العصبي وجهاز الغدد الصماء. وقد ثبت علميا على مستوى الانسان وحيوانات التجارب، بأن أي إضطراب نفسي شاملا القلق يؤدي إلي زيادة كبيرة في إفراز هذه الجزيئات ، والذي بدوره يؤدي إلي تأثير سلبي علي وظائف الخلايا المناعية. ولأن الصائم يكون في حالة صفاء نفسي أثناء شهر رمضان، فإن مستوي هذه الجزيئات يكون في أحسن حالة مقارنة بباقي شهور السنة التي يكون الفرد تحت تأثير ضغوطات الحياة بأشكالها المختلفة. فالصوم هو علاج نفسي لكل إضطرابات الجهاز العصبي والغدد الصماء ، ولذلك فإن الخلايا المناعية تظل علي شغف في انتظار شهر رمضان وذلك لعدم تعرضها لمستويات عالية من الجزيئات المفرزة من الجهاز العصبي والغدد الصماء ، وبالتالي تمارس وظائفها بنشاط وسعادة وبقوة أعلى من باقي شهور السنة.

والخلايا المناعية تتأثر بصورة سلبية شديدة بالأحماض الدهنية المشبعة والغير مشبعة والمختزنة في أماكن كثيرة في الجسم أهمها الكبد والبطن والمعدة والأمعاء. ويؤدي الصوم إلي تحلل هذه الدهون بعملية تسمي Autolysis وذلك كمصدر للطاقة. ففي خلال الساعات الاولى من اجمالي 12 ساعة للصيام يقوم الجسم بإستخدام مخزون السكريات كمصدر أساسي للطاقة، ولأن هذا المخزون ينفذ سريعا فإن الجسم يبدا في استخدام الدهون كمصدر ثاني للطاقة. وهذا فضل من الله للتخلص من معظم الدهون المترسبة طوال العام. وبحكمة الله في خلقه فإن الطاقة الناتجة من تكسير الدهون قوية جدا حيث لا يحتاج الجسم إلي تكسير البروتينات كمصدر ثالث للطاقة، وبهذا يظل مستوى البروتينات ثابت في الجسم نظرا لأهميتها القصوى لوظائف الجسم عموما والخلايا المناعية خاصة، والتي تسعد كثيرا بقدوم شهر رمضان والذي يخلصها من أذى تراكم الدهن طول العام، فتتحسن وظائفها حوالي عشرة أضعاف ما قبل شهر رمضان. وقد أثبتت الأبحاث العلمية زيادة كبيرة في عدد وظائف الخلايا البلعمية التي تلتهم الميكروبات وتقتلها ،وقد يفسر ذلك بتقليل أعراض مرض تصلب الشرايين عند الصائمين، وذلك لأن الخلايا البلعمية لها قدرة غير عادية علي ابتلاع الدهون المترسبة في الأوعية الدموية التي تسبب تصلب الشرايين. والمشوق جدا أن الصوم يؤدي إلي زيادة أعداد ووظائف الخلايا اللمفاوية (نوع تي) بصورة ملحوظة ، والتي تلعب دورا كبيرا في تحسين الوظائف المتخصصة للجهاز المناعي ضد الأورام والميكروبات المختلفة. والاكثر إثارة أن الصوم يؤدي إلي تقليل إفراز مادة IL-6 و CRP ومادة الهموسستين ، وتلعب هذه المواد دورا كبيرا في إحداث الالتهاب بقدرتها علي التعامل مع بروتينات الجسم المختلفة خاصة في وجود مخزون من الدهون مؤدية إلي تكسير البروتينات وإحداث عطب للأعضاء المختلفة والتهابات كما يحدث في الاوعية الدموية. ولأن هذه المواد تلعب دورا كبيرا في زيادة الالتهابات، فإن تأثير الصوم علي هذه المواد يفسر تقليل الالتهاب وخاصة أمراض الأوعية الدموية والقلب أثناء الصوم.

وعكس تأثير الصوم علي مستوى مادة الهموسستين Homocystin فقد اوضحت الأبحاث العلمية الحديثة بأن الزيادة في مادتي Folate (الفوليت) و B12 (ب 12) لهما تأثير معاكس تماما علي الالتهاب وتحسين وظائف الجهاز المناعي. فمثلا عند وجود مستويات منخفضة من مادتي (الفوليت) و (ب 12) يتحول الحمض الأميني ميثونين إلى Cystin (سستين) بعد تكوين مادة Homocystin (الهموسستين)، أما في حالة وجود مستويات عالية من مادتي (الفوليت) و (ب 12)، كما يحدث في الصيام فإن تكوين السستين لا يصاحب بتكوين الهموسستين، وبالتالي فإن تأثير الصوم ليس بتأثير عرضي بل هو تأثير متخصص جدا بإرادة الله سبحانه وتعالي بفضل هذا الشهر الكريم .فإذا كنت تريد جهازا مناعيا قويا والتخلص من الالتهابات فما عليك إلا الصوم بروحانية وطمائنينة نفسية.

تقبل الله طاعتكم و دمتم بخير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى