رياضة النفس_للشيخ سعد بن عبدالله السبر

الْحَمْدُ للهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيْم ، الْجَوَادِ الْكَرِيْم ، خَلَقَ الإِنْسَانَ فِيْ أَحْسَنِ تَقْوِيْم ، وَأَبْدَعَهُ فِيْ أَبْهَى حُلَّةٍ وَصُوْرَة ، وَنَشَرَ فِيْ الأَرْضِ ضِيَائَهُ وَنُوْرَه ، كَتَبَ لَهُ الرِّزْقَ وَالأَجَل ، وَالْحَيَاةَ وَالْمَوْت ، وَالشَّقَاءَ وَالسَّعَادَة ، نَحْمَدُهُ عَلَى نِعَمِهِ الْمُتَتَالِيَة ، وَأَفْضَالِهِ الْمُتَوَالِيَة ، وَنَشْكُرُهُ مَا طَارَتِ الأَطْيَار ، وَسَحَّتِ الأَمْطَار ، وَتَسَابَقَ الْلَّيْلُ وَالنَّهَار ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ يُعْبَدُ بِحَقِّ إِلا الله ، وَلا رَبَّ يَخْلُقُ وَيَرْزُقُ سِوَاه ، لَيْسَ فِيْ ذَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ مَخْلُوْقَاتِه ، وَلا فِيْ مَخْلُوْقَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَاتِه ، صِفَاتُهُ الْعُلْيَا ، وَأَسْمَاؤُهُ الْحُسْنَى ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً رَسُوْلُهُ الْمَبْعُوْثِ رَحْمَةً لِلْعَالَمِيْن ، وَمُرْشِدَاً لِلتَّائِهِيْن ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ الأَصْفِيَاءِ الْمُتَّقِيْن ، وَسَلَّمَ تَسْلِيْمَاً كَثِيْرَاً إِلَىْ يَوْمِ الدِّيْن .
أَمَّا بَعْدُ : فَأُوْصِيْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَنَفْسِيْ بِتَقْوَى اللهِ عَزَّ وَجَل ، فَهِيَ حَرْثُ الدُّنْيَا ، وَحَصَادُ الآَخِرَة ، ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) () ، ( إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ) () .
أَيُّهَا النَّاس : اشْرَأَبَّتِ الأَعْنَاق ، لِطُوْلِ الْعِنَاق ، ولكن سرعان ما غابت الشمس ، وأفل القمر ، وحث الجديدان الخطى في نهش الأعمار ، وأكل الدِّيار ، والنفوس في الغفلة سادرة ، لذنوب الخلوة ساترة ، فذاك هو رمضان ، نسماته تتلاشى في الأفق ، وآثاره تندرس شيئا فشيئا .
فهذه إليك يا من وجد اللذة والحلاوة ، يا من وجد الحبور والسرور ، إليك يا صاحب الدمعة الخاشعة ، والنحيب الذليل ، والإرهاق المريح ؛ إليك هذه الوصية : إذا أردت المداومة على ذلك ، والإستمرار عليه ، فاعلم أنَّ جماع ذلك كله هو : رياضة النفس .
ورياضة النفس هي : حمل النّفس على المشاقّ البدنيّة ومخالفة الهوى . فإذا جاهدت نفسك وروَّضتها ؛ فاعلم أنها ستعينك على ما تريد ، وستنال بها المعالي ، وتبلغ بها الأماني . ( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ) (). والرياضة والمجاهدة على أقسام : مجاهدةٌ بالنَّفْسِ ، ومجاهدةٌ بالقلبِ ، ومجاهدةٌ بالمال . فالمجاهدةُ بالنفس : ألا يَدَّخِرَ العبدُ ميسوراً إلا بَذَلَه في الطاعة بتحمُّل المشاقّ . والمجاهدةُ بالقلب : صَوْنُه عن الخواطرِ الرديئةِ مثل الغفلة ، والعزمُ على المخالفات ، وتذكرُ ما سَلَفَ من المعاصي والسيئات . والمجاهدة بالمال : بالبذل والسخاء ، ثم بالجود والإيثار . ()
واعلم أنَّ المعين الأوَّل لتلك النفس الأمَّارة هو : الشيطان . فإذا غلبت الشيطان ؛ فقد غلبت النفس ، وللشيطان مداخل ومسارب يصل بها لمبتغاه ، وينال بها بغيته ، فإذا أغلقت الطريق عنه ، وأوصدت تلك المداخل ، فقد عرفت سرّ هذه النفس ، وملكت زمامها ، ولجهاد الشّيطان-كما يقول ابن القيّم- مرتبتان:
الأولى : جهاده على دفع ما يلقى إلى العبد من الشّبهات والشّكوك .
الثّانية : جهاده على ما يلقى إليه من الإرادات الفاسدة والشّهوات ، فالمرتبة الأولى يكون بعدها اليقين ، والثانية يكون بعدها الصّبر ، قال تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) () ، فأخبر اللّه-عزّ وجلّ- أنّ إمامة الدّين إنّما تنال بالصّبر واليقين ، فالصّبر يدفع الشّهوات والإرادات الفاسدة ، واليقين يدفع الشّكوك والشّبهات . () وهذه هي الأمنية ؛ بأن تدفع الشهوات والشبهات .
لأن للنفس صفتان : انهماك في الشهوات ، وامتناع عن الطاعات .() والصبر واليقين هما دواء تلك الصفتين . ورياضة النفس تستلزم الجهد والإرهاق في بداية الأمر ، حتى تكتسب المرونة واللياقة ، ثم تنساق معك .
فإذا صارعت وجاهدت في البداية ؛ فهذا بشير نجاح وفلاح –بإذن الله- . وقدسئل الشافعي -رحمه الله- أيُّما أفضلُ للرجل ، أن يُمكَّن مباشرة أو يُبتلى ؟ فقال: لا يُمكَّن حتى يُبتلى . والله تعالى ابتلى أُولى العَزْمِ مِن الرسل ، فلما صَبَرُوا مكَّنهم ، فلا يَظُنَّ أحد أنه يخلص من الألم البتة ، وإنما يتفاوتُ أهلُ الآلام في العُقُول ، فأعقلُهم مَنْ باع ألماً مستمِراً عظيماً ، بألم منقطع يسير ، وأشقاهُم مَنْ باع الألَمَ المنقطِعَ اليسير ، بالألم العظيم المستمر . () قال ابن حجر- رحمه اللّه- في شرح حديث ربيعة بن كعب –رضي الله عنه- عندما سأل النّبيّ -صلّى اللّه عليه وسلّم- المرافقة في الجنّة ، قال : فمن كثرة سجوده حصلت له تلك الدرجة العلية ، التي لا مطمع في الوصول إليها إلا بمزيد الزلفى عند الله في الدنيا ، بكثرة السجود المومأ إليه بقوله تعالى: (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ)() () .
أيها المؤمنون : جاهدوا أنفسكم بأسياف الرياضة ، واعلموا أنَّ الرياضة على أربع أوجه وهي : القوت من الطعام . والغمض من المنام . والحاجة من الكلام . وتحمل الأذى من جميع الأنام . فيتولد من قلة الطعام :
موت الشهوات . ومن قلة المنام : صفو الإرادات . ومن قلة الكلام : السلامة من الآفات . ومن احتمال الأذى : البلوغ إلى الغايات . () ، وعَنْ فَضَالَةَ بْنَ عُبَيْدٍ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ( الْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ ). () وكان مالك بن دينار يطوف في السوق فإذا رأى الشيء يشتهيه قال لنفسه : اصبري فوالله ما أمنعك إلا من كرامتك علي . ()
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ، أقول قولي هذا ، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية :
الحمد لله عَلى إحسانِه ، والشّكر له على توفيقهِ وامتنانه ، وأشهد أن لاَ إلهَ إلا الله وحدَه لا شَريك له تعظيمًا لشأنه ، وأشهَد أن نبيّنا محمّدًا عبده ورَسوله الدّاعي إلى رضوانه ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه ، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدّين.
أمّا بعد : فيا أيّها النّاس ، اتّقوا الله تعالى حقَّ التقوى ، وأنيبوا وأسلموا له ، لتنجو في يوم تشيب فيه الولدان ، وتقشعر فيه الأبدان .
عبادَ الله : لرياضة النفس ومجاهدتها فوائد عديدة ؛ منها : إخضاع النّفس والهوى لطاعة اللّه عزّ وجلّ ، وإبعادها عن الشّهوات ، وصدّ القلب عن التّمنّي والتّشهّي ، وتعوّد الصّبر عند الشّدائد على الطّاعات وعن المعاصي ، واعلموا أنها طريق قويم يوصّل إلى رضوان اللّه تعالى والجنّة ، ومن جاهد نفسه وأدّبها سما بين أقرانه وفي مجتمعه ، وإنَّ سوء الظّنّ بالنّفس يعين على محاسبتها وتأديبها ،() وحسن الظن بها سبيل لفسادها .
قال ثابت البناني : كابدت الصلاة عشرين سنة ، وتنعمت بها عشرين سنة . ()
و قال محمد بن المنكدر : كابدت نفسي أربعين سنة حتى استقامت . ()
هَذَاْ واعلَموا – رحمكم الله – أنّ أحسَنَ الحديث كتابُ الله ، وخيرَ الهديِ هَدي محمّدٍ ، وشرَّ الأمورِ محدَثاتها ، وكلّ بِدعةٍ ضَلالة ، وعليكم بجماعةِ المسلِمين ، فإنّ يدَ الله علَى الجمَاعةِ ، ومَن شذَّ شذَّ في النّارِ .
وصلّوا – رحمكم الله – علَى نبيِّكم محَمّد كما أمَرَكم بذلِك ربّكم ، فقال تعَالى : ( إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) . () اللَّهمَّ صلِّ وسلِّم وبارِك علَى سيدنا محمّد سيد الأولين والآخرين ، وارضَ اللَّهمّ عن خلفائِه الرّاشدين ، الأئمة المهديين : أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ وعن بقية الصحابة أجمعين ، وأهل بيته الطيبين الطاهرين . وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وعنا معهم بمنك وإحسانك يا أرحم الراحمين .
اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، وأذل الشرك والمشركين ، ودمر أعداءك أعداء الدين ، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً ، وسائر بلاد المسلمين ، اللهم انصر من نصر الدين ، واخذل من خذل عبادك المؤمنين . اللهم فرج هم المهمومين من المسلمين , ونفس كرب المكروبين ، واقض ِ الدين عن المدينين ، واشف مرضانا ومرضى المسلمين ، برحمتك يا ارحم الراحمين , اللهم آمنا في أوطاننا ، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا ، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يارب العالمين , اللهم وفق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه يا حي يا قيوم ، اللهم أصلح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام , ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفى الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عِبَادَ اللهِ : ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) . () فاذكروا الله يذكركم ، واشكروه على نعمه يزدكم ، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون .
ملاحظة : ستلقى هذه الخطبة في جامع الشيخ عبدالله الجار الله 8/10/1431هـ -بإذن الله-
للتحميل
اضغط هنا
——————————————————————————–
() سورة الحشر ، رقم آية : 18 .
() سورة النحل ، رقم آية : 128 .
() سورة العنكبوت ، آية رقم : 69 .
() انظر : تفسير القشيري (5 / 233) .
() سورة السجدة ، آية رقم : 24 .
() زاد المعاد (3/ 10) .
() فتح الباري (11 / 338) .
() انظر : زاد المعاد (3 / 14) .
() سورة العلق ، آية رقم : 19.
() دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (1 / 393) .
() إحياء علوم الدين (3 / 66) .
() رواه الترمذي (4 / 165) ، رقم الحديث : (1621) . وقال الترمذي : حديث فضالة حديث حسن صحيح. وقال الألباني : صحيح . انظر حديث رقم : (6679) في صحيح الجامع .
() إحياء علوم الدين (3 / 67) .
() نضرة النعيم (8 / 3316) .
() سير أعلام النبلاء (5 / 224) .
() حلية الأولياء (3 / 147) .
() سورة الأحزاب ، آية رقم : 56 .
() سورة النحل ، آية رقم : 90 .


