خطب الجمعهخطب الشيخ سعد السبر

إنفلونزا الرشوة – خطب الجمعة

الحمد لله الباسط رحمته والقابض نقمته ، له الفضل مسدولا وله الحمد مرسولا ، نحمده حمداً متتاليا على حكمته التي لا تزِل ، ونشكره شكرا متتابعا أنعامه التي لاتكِل ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له في ألوهيته وفي ربوبيته وفي أسمائه وصفاته ، جل عن الند وعن الشبيه وعن المثيل وعن النظير ، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين .

أما بعد : فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله عزّ وجل ، فنور الجنان من مشكاتها ، ودرب الفلاح من دواتِها ،( يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتَهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ) (آل عمران :102)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) (الحشر :18)

أيها المؤمنون : :يقول الله عز وجل ( وَتَرَىٰ كَثِيراً مّنْهُمْ يُسَـٰرِعُونَ فِى ٱلإِثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ ٱلسُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ،لَوْلاَ يَنْهَـٰهُمُ ٱلرَّبَّـٰنِيُّونَ وَٱلاْحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ ٱلإثْمَ وَأَكْلِهِمُ ٱلسُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ)(المائدة 62-63). داء يستشري في المجتمع ، وينهِش من كاهل الأمة ، ويدبّ في الناس دبيبا ، لقد تزعَّم هذا الداء معاملاتنا وحياتنا ، إنه داء الرِّشوة العضال ، لقد تكوَّر على تجاراتنا وأموالنا ، فلم نعد نحسُبه شيئا ( وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ) .(النور:15)

وإذا وصلت بالإنسان هذه المرحلة ، فليتدارك نفسه عن الهاوية ، وليراجع سريرته ، وليرى من أي القلوب قلبه ، فقد روى مسلم من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله : ( تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عوداً عوداً، فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء ، وأيما قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير القلوب على قلبين: قلب أسود مُرْبَادّاً كالكوز مجخياً، لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه، وقلب أبيض، فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض ) مسلم وأحمد ، ويقول الله تعالى: (وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ).(البقرة:188)

إخوة العقيدة يصرِّح البعض ، بأن الرشوة هي منفذ لكل من قصمته فاقة ، أو هوت به خسارة ، فعليه بها ، وللأسف أخذ كثير من الناس ينحو نحوهم ، سواء بقصد أو بغير قصد ، والرشوة قال ابن عابدين رحمه الله في حاشيته معرفها: ( أن الرشوة هي: ما يعطيه الشخص لحاكم أو غيره ليحكم له أو يحمله على ما يريد) يقول الله تعالى في ذم اليهود: (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) (المائدة :42) ولا شك أن الرشوة من السحت كما فسر ابن مسعود رضي الله عنه الآية بذلك.

وعن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: ( لعن رسول الله الراشي والمرتشي في الحكم )رواه الخمسة. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: تُليت عند رسول الله هذه الآية : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالا طَيِّبًا) ، فقام سعد بن أبي وقاص فقال: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة، فقال : النبي ( يا سعد أطبْ مطعمك تكن مستجاب الدعوة ، والذي نفس محمد بيده إنَّ العبد ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يقبل الله منه عملاً أربعين يوماً، وأيما عبد نبتَ لحمه من سحت فالنار أولى به ) . رواه الطبراني ذكر ذلك الحافظ ابن رجب رحمه الله في جامع العلوم والحكم وأعظم من ذلك كله ما روى البخاري عن أبي حميد الساعدي ‏”‏ أن رسول الله بعث والياً على صدقات الازد فلما جاء إلى رسول الله امسك بعض ما معه وقال‏:‏ هذا لكم وهذا لي هدية فقال عليه السلام‏:‏ ‏”‏ ألا جلست في بيت أبيك وبيت أمك حتى تأتيك هديتك إن كنت صادقاً ‏”‏ ثم قال‏:‏ ‏”‏ مالي استعمل الرجل منكم فيقول‏:‏ هذا لكم وهذا لي هدية آلا جلس في بيت أمه ليهدى له والذي نفسي بيده لا يأخذ منكم احد شيئاً بغير حقه إلا أتى الله يحمله فلا ياتين أحدكم يوم القيامة ببعير له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تيعر ‏“‏ ثم رفع يديه حتى رأيت بياض إبطيه ثم قال‏:‏ ‏”‏ اللهم هل بلغت ‏”‏‏.‏ وسئل ابن مسعود رضي الله عنه عن السحت فقال‏:‏ يقضي الرجل الحاجة فتهدى له الهدية ولعله أراد قضاء الحاجة بكلمة لا تعب فيها أو تبرع بها لا على قصد أجرة فلا يجوز أن يأخذ بعده شيئاً في معرض العوض شفع مسروق شفاعة فأهدى إليه المشفوع له جارية فغضب وردها وقال‏:‏ لو علمت ما في قلبك لما تكلمت في حاجتك ولا أتكلم فيما بقي منها‏.‏ وقال محمد بن كعب‏:‏ ثلاث من كن فيه استكمل الإيمان بالله إذا رضي لم يدخله رضاه في الباطل وإذا غضب لم يخرجه غضبه عن الحق وإذا قدر لم يتناول ما ليس له‏.‏ روى عن مجاهد وعكرمة وقتادة أنهم قالوا( لا تخاصم وأنت تعلم أنك ظالم )

أيها المسلمون لقد شبهت الدنيا بالحية فقيل‏:‏ هي دنيا كحية تنفث السم وان كانت المجسة لانت وكما يستحيل أن يتشبه الأعمى بالبصير في تخطي قلل الجبال وأطراف البحر والطرق المشوكة فمحال أن يتشبه العامي بالعالم الكامل في تناول المال‏.‏

وللرشوة آثار في إفساد المجتمعات وإهلاكها ، والنزول بها إلى الحضيض فمن هذه الآثار

ما قاله الإمام عبد العزيز بن باز رحمه الله : (الرشوة وغيرها من المعاصي تضعف الإيمان ، وتغضب الرب عز وجل ، وتسبب تسليط الشيطان على العبد في إيقاعه في معاصي أخرى ، فالواجب على كل مسلم ومسلمة الحذر من الرشوة ، ومن سائر المعاصي مع رد الرشوة إلى أصحابها أن تيسر له ذلك فإن لم يتيسر له ذلك ، تصدَّق بما يقابلها عن صاحبها على الفقراء ، مع التوبة الصادقة عسي الله يتوب عليه ) .

وقال يوسف بن أسباط : إن الرجل إذا تعبد قال الشيطان لأعوانه: انظروا من أين مطعمه؟ فإن كان مطعم سوء قال: دعوه يتعب ويجتهد فقد كفاكم نفسه. قال الحافظ الذهبي رحمه الله: ويؤيد ذلك ما ثبت في الصحيح من حديث رسول الله : (في الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر، ومطعمه من حرام، ومشربه من حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك ) .مسلم

وقد قال بعض السلف: لو قمت قيام السارية ما نفعك حتى تعلم ما يدخل بطنك؛ أحلال أم حرام؟

وقد يسأل أحدهم بأنَّ المصالح والمعاملات قد تفشَّى فيها هذا الأمر فهل يجوز أن أعطي الرشوة لأسَيِّرَ حقَّا لي ؟

أيها الأحبة : لنذكِّر أنفسنا بأن الله لم يمنع شيئا إلا فيه ضرر عظيم على الخلق فلماذا تجاوز حكمة الله وشرعه ، ونتعالم على أنفسنا بأن أمورنا ميسَّرة بالرشوة ، بل أن الشيطان لا يوجد لك طريقا للمال أو المعيشة أو الوظيفة إلا هذا الطريق فتنقاد وراء شيطانك ونزوتك مباشرة دون أي رادع أو مانع .

فعلى المسلم أن يحكم أمر الله وأن يجعله من أول موانعه عن المحرمات والمنكرات ، وليستشعر لحظات يوم القيامة وليراقب الله في سره وعلانيته ، فإنها بمثابة الحاجز عن الوقوع في الذنوب والمعاصي مادامت ، قارَّة في القلب ماكثةً بين جنباته . وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه …

كتبه
سعد بن عبدالله السبر

المشرف العام على شبكة السبر إمام وخطيب جامع الجارالله

salsaber@hotmail.com 23/3/1430هــ

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى