العفو والتسامح && للشيخ سعد بن عبدالله السبر

الحمد لله يعفو عن الزلل ويصفح ويقيل العثرة ويمدح أحمده سبحانه وأشكره على جزيل نعمائه وتتابع عطائه ، وأشهد أن لا إله إلا الله الإله الحق المبين تنزه عن الند وعن الشبيه وعن المثيل وعن النظير ليس كمثله شئ وهو السميع البصير ، وأشهد أن محمد ه ورسوله خير الورى وأفضل الأنام صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الكرام وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين أما بعد فأُوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله فهي عصمتكم من الزلل وكفارة ذنوبكم عن الخلل ومسكنتم بعد الله الظُلل وكاسيتكم أبهى الحُلل (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) ()
أيها المسلمون : يعيش بعض الناس في عصرنا أزمة نفسية وهموم وكروب وغموم سبب هذه الأمور البعد عن خلق الإسلام الذي دعا لكل فضيلة وحثّ على مكارم الأخلاق
أيها الأحبة : إن العفو التسامح خُلق إنسانى أصيل دعا إليه الإسلام ؛ لأنه يرفع الحرج فى العلاقات بين الناس ويجعل الإنسان يترفع عن الكره والبغضاء وروح الثأر والانتقام ، وهى صفات تفسد وتدمر الحياة البشرية على الأرض ، وتقطع سبل التفاهم والتعاون بين الناس .
وفى مقابل ذلك يدعو سبحانه وتعالى إلى العفو والتسامح ونسيان الأحقاد والعمل بالحسنى ، فيقول تعالى : (ولا تستوى الحسنة ولا السيئة ادفع بالتى هى أحسن فإذا الذى بينك وبينه عداوة كأنه ولى حميم , وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم) () . من الذي جعل العدو حميما والحاقد حبيبا فعاش آمنا مطمئنا حياة بالعفو والصفح تكون هنيئة
أيها الإخوة إن القرآن ممتلئ بآيات تحث على العفو قراءتها ترقق القلوب وتُذهب الحقد والغل وتُفرج الهموم والكروب لأن القرآن كلام الله ؛ ولأن العفو من صفات الرحمن واعلموا أن امتثال هذه الآيات سبب لراحة القلوب وطمأنينة النفوس قال الله تعالى {وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل} قال تعالى {وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم}
قال الشنقيطي : معلقا على قوله تعالى في هذه الآية الكريمة {وليعفوا وليصفحوا} قال بعض أهل العلم مشتق من صفحة العنق أي أعرضوا عن مكافأة إساءتهم حتى كأنكم تولونها بصفحة العنق، معرضين عنها. وقوله تعالى: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين. الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين}() .وقد دلت هذه الآية على أن كظم الغيط والعفو عن الناس، من صفات أهل الجنة () ، كقوله تعالى: {فاصفح الصفح الجميل} () وكقوله: {ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور}() وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {ألا تحبون أن يغفر الله لكم} دليل على أن العفو والصفح على المسيء المسلم من موجبات غفران الذنوب، والجزاء من جنس العمل، ولذا لما نزلت قال أبو بكر: بلى والله نحب أن يغفر لنا ربنا، ورجع للإنفاق في مسطح ()
إخوة الدين إن التمكن من القصاص ممن ظلمنا بقدر المظلمة فهذا جائز ولكن الأجمل منه العفو عن من ظلمنا يقول الله عز وجل ( فمن عفي له شئ من أخيه فاتباع بمعروف ) ويقول الله عز وجل { لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ.. }() يعني: أعطيناك فرصة أنْ تدعو على من ظلمك.ثم يقول سبحانه: ” ودعا عليك مَنْ ظلمتَه، فإنْ شئتَ أجبناك وأجبنا عليك، وإن شئت أخَّرتكُما للآخرة فيسعكُما عَفْوي “. فالمخبت يستحضر هذا كله، ويركن إلى العفو والتسامح؛ ليأخذ رَبَّه عز وجل في صفه؛ لذلك يقولون: لو علم الظالم ما أعده الله للمظلوم من الكرامة لضَنَّ عليه بالظلم. { والذين إِذَآ أَصَابَهُمُ البغي هُمْ يَنتَصِرُونَ }الذين اذا بغى عليهم أحد ينتصرون لأنفسهم ممن ظلمهم .
ثم بين الله تعالى ان ذلك الانتصار للأنفس مقيَّد بالمِثْل :{ وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا }فالزيادة ظلم ، والتساوي هو العدل الذي قامت به السمواتُ والأرض ثم بين الله ان من الافضل العفو والتسامح () فقال :{ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظالمين } . ومثل هذا قوله تعالى : { وَأَن تعفوا أَقْرَبُ للتقوى } () ، ومثله ايضاً { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ } () ، الى آياتٍ كثيرة وأحاديثَ تحثّ على الصبر والعفو . وهذا سبيل الاسلام .ثم بين الله تعالى أن الانسان اذا انتصر لنفسه ممن ظَلَمه فلا سبيلَ عليه ، لكن اللوم والمؤاخذة على المعتدين الذين يظلمون الناسَ ويتكبرون في الأرض ويفسِدون فيها بغير الحق { أولئك لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } .ثم كرر الحث والترغيب في الصبر والعفو فقال :{ وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور } .” وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ” () .وقد ضرب يوسف عليه السلام المثل في العفو والتسامح عن زلة الأخ، ورفع العتب عنه، مع أن ما فعله به إخوته يعتبر ذنبا كبيرا، إذ هو شروع في قتله ومحاولة لإخفاء أثره عن أبوية، ومع ذلك فقد صفح عنهم يوسف وخاطبهم باللين:” قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمْ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ” () ()
إخوة العقيدة لقد أوذي النبي من أعدائه وحاولوا قتله وأذيته ولم يجدوا من رسول الله إلا العفو ، فلقد أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دم عكرمة بن أبي جهل قبل أن يسلم في يوم الفتح فخاف عكرمة وحاول الإختفاء فلم يجد ملجأ من أن يستشير الصحابة فقالوا له اذهب للنبي وقل له ( تالله لقد أثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين ) فسيعفو عنك فذهب متسللا فلم دخل على النبي قال له ذلك فرد عليه النبي لاتثريب عليك يغفر الله لك وروى أنس أن يهودية أتت النبي صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة ليأكل منها فجيء بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسألها عن ذلك فقالت أردت قتلك فقال ما كان الله ليسلطك على ذلك قالوا أفلا تقتلها فقال لا) () وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ) كان تاجرٌ يداين الناس، فإذا رأى مُعسرًا قال لفتيانه: تجاوزوا عنه لعل الله يتجاوز عنا، فتجاوز الله عنه (.ورجل يشهد له النبي بالجنة ؛لأنه يتصدق بعرضه كل ليلة ويعفو عن من ظلمه
أيها المؤمنون بعد أن فتح الله على نبيه مكة يأتي أبو سفيان وكفار قريش فيقول لهم النبي ما تظنون أني فاعل بكم فقالوا أخ وابن أخ كريم فقال اذهبوا فأنت الطلقاء .
يأتيه رجل وهو نائم تحت شجرة متوشحا سيفه فيقول من يعصمك مني يا محمد ؟ فيقول في إيمان ويقين الله فيرتدع الرجل فيسقط سيفه من يده فيأخذ النبي سفه ويقف ويقول من يعصمك مني ؟ ثم يعفو عنه النبي .
عباد الله إن العفو والتسامح شيمة الكرام وصفة العظام ، فعندما عير أبو ذر بلالا فشكاه بلال إلى النبي قال النبي: { أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية قال: يا رسول الله! أعلى كبر سني وشيبتي؟ قال: نعم إنك امرؤ فيك جاهلية } فخرج أبو ذر وقال: لا جرم والله لأنصفن بلالاً من نفسي, وأقبل بلال يمشي في الطريق فوضع أبو ذر رأسه على التراب, وقال: طأ يا بلال رأسي برجلك, لا أرفع رأسي حتى تطأه برجلك, فرجلك أكرم من رأسي -فماذا فعل بلال ؟- فبكى بلال ! وقال: والله لا أطأ رأسك أنت أخي وحبيبي, فتعانقا والتزما وبكيا.
قال ابن المبارك المؤمن يطلب المعاذير و المنافق يطلب العثرات وقال الفضيل الفتوة العفو عن زلات الإخوان ()
قال بعض الحكماء لا تصحب من يتغير عليك عند أربع عند غضبه ورضاه وعند طمعه وهواه ()
وقال بعض السلف أعجز الناس من قصر في طلب الإخوان واعجز منه من ضيع من ظفر به منهم ()
و قال إبراهيم النخعي لا تقطع أخاك ولا تهجره عند الذنب بذنبه فإنه يرتكبه اليوم ويتركه غدا () ابن تيمية عادية بعض أقرانه فلما ظفر بهم عفا عنهم وابن باز رحمه الله عفا عن من سحره وعن السارق الذي دخل بيته
سعد بن عبدالله السبر
المشرف العام على شبكة السبر
إمام وخطيب جامع الشيخ عبدالله الجارالله
——————————————————————————–
() سورة ال عمران ، آية: 102
()فصلت:34-35
()
()أضواء البيان – (5 / 488)
()
()
()أضواء البيان – (5 / 487)
()
()تفسير الشعراوي – ( / 2611)
()
()
()(سورة يوسف الآية 69)
()(سورة يوسف الآية 92)
()مكارم الأخلاق في القرآن الكريم – (1 / 8)
() رواه البخاري ومسلم
()إحياء علوم الدين – (2 / 177)
()إحياء علوم الدين – (2 / 179)
()إحياء علوم الدين – (2 / 180)
()إحياء علوم الدين – (2 / 183)