الفتـــوى العـامـــــــة للدكتور محمد المصري

فقد صاحب ثورة الفضائيات , وانتشار المواقع الإلكترونية بمختلف أطيافها محاولات جادة لاستثمارها فيما ينفع الناس في أمور دينهم ودنياهم وضمن حرص كثير من القنوات على جذب أكبر عدد من الجمهور من جهة وسد حاجة هؤلاء الجمهور من جهة أخرى إلى من يجيبهم عما يشكل عليهم من مسائل شرعية استقطبت هذه القنوات وتلك المواقع عدداً ضخماً من العلماء والدعاة والخطباء والباحثين , ومع إحسان الظن بهم جميعاً , إلا أن ما يقوم به هؤلاء يجب أن يعلمُ أنه من الأمور الجليلة الخطرة التي لا يقتصر أثرها على السائل وحده , وإنما يسمعها ويشاهدها ويقرؤها الآلاف وربما الملايين ولذا فإنه لا بد للمسؤول أن يكون على قدر هذه المسؤولية , ولن يكون كذلك حتى يعلم أنه يقوم بعمل مهم , كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يتدافعونه فيما بينهم حيث إن المفتي يظهر الحكم الذي يرضي الله تعالى ــ فعلاً وتركاً ــ إيجاباً واستجاباً , أو تحريماً أو كراهة ــ أو إباحة ــ فضلاً عما هو أخطر من ذلك وحُقَّ لكل باحث ومطلع أن يتساءل وهل الفتوى العامة يقوم بها أي أحد ؟ أم أنها تعود إلى أناس متخصصين بها فالمفتي يجب أن يكون عالماً بحقيقة المسألة التي يُفتي بها تأسيساً لا تقليداً مع ذكاء وفطنة ومعرفة بالمقاصد التي جاءت بها الشريعة والمصالح والمفاسد المترتبة على فتواه , مع غلبة ظنه أنه مصيب وأنه قد يكون أخطأ خصوصاً في مسائل الاجتهاد ويجب أن يتحلى بالشجاعة التي تدفعه إلى الاعتراف بعدم العلم في بعض المسائل إلى الرجوع إلى الحق إن غلب الخطأ على ظنه , قال الله تعالى : {النحل:43}
فأمر الله من لا يعلم بسؤال من يعلم ولم يجعل بينهما واسطة , فإن أقدم على الفتوى بمجرد التخرص أو بناءً على سماعه لفتوى غيره , أو نقلاً عن اتجاه معين فإنه آثم لأنها فتوى بغير علم وقول على الله بغير علم صحيح حتى وإن أصاب الحق مصادفة وقد قال الله تعال: {الأعراف:33}
وقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم:”من أفتى بغير علم فإنما إثمه على من أفتاه”.
ولسائل أن يقول ولكنه ناقل لقول غيره فالجواب أنه إن حدد الجهة أو الفتي ولم يقل إنها حكم الله سبحانه فإنه مجرد ناقل أما أن يجزم بحكم في مسألة أنها من الشرع المطهر وليس هو من أهل الاجتهاد والفتوى فإنه قائل على الله بغير علم , وبهذا يتضح أنه ليس كل من تعلم أو درس علوم الشريعة أو حضر مجالس العلماء أو كان خطيباً أو داعية فضلاً عن تائب أو تائبة ــ مع حفظ مكانتهم فيما تخصصوا به ــ لكن ليس من حق آحادهم أن يكون مفتياً حتى يستكمل آليات الفتوى وأدواتها , يتضح كذلك أن ثمة فجوة يجب سدها من خلال قيام هيئات الفتوى بدورها المنوط بها , وإقامة دورات تأهيلية لمن يُقدِّم مفتياً لعموم الناس وليس من الحكمة ما نراه في الفضائيات من تصدي عدد كبير من مختلف التخصصات شرعية ودعوية وطبية وهندسية بل وفنانين وفنانات ـــ وإن كانوا تائبين أو تائبات ـــ لشؤون الفتوى في الدين حتى أضحى الحديث في الأمور الشرعية والمسائل المستجدة حلالاً لكل احد , وصار المرء يرى ويسمع المؤهل وغير المؤهل فضلاً عن الجاهل يفتي ويُقدَّم على أنه العالم الجليل أو الداعية أو الخطيب أو نحوها وربما ضلّوا وأخلوا .
وفي الختام أذكِّر إخواني بقول التابعي الجليل محمد بن سيرين ــ رحمه الله ـــ ” إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم ” ، فلا يجوز للعامي أن يسأل غير المؤهل وغير المعروف بالعلم والفتوى ممن يظهر في القنوات والمواقع حتى يثني عليه أهل العلم ، ولا يجوز له أخذ العلم من غير المتخصصين أما تجارب الأطباء والمهندسين والتائبين فتصلح للعبرة والعظة لا للعلم والفقه والفتوى كما لا يجوز للعامي أن يتخير من الفتاوى ما يشاء تبعاً لهواه تشدداً أو تساهلاً بل واجبه أن يسأل الأعلم وينفذ ما يقول،والله أسأل أن يفقهنا في دينه وأن يعلمنا ما ينفعنا وينفعنا ما علمنا إنه سميع مجيب وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .