القرآن و رمضان – خطب الجمعة
شبكة السبر – خطب الجمعه
كتبه د/ سعد بن عبدالله السبر
5/9/1429
إمام وخطيب جامع الشيخ عبدالله الجارالله رحمه الله
الحمد لله الذي امتن على عباده بنبيه المرسل وكتابه المنزل الذي (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ )(1) حتى اتسع على أهل الأفكار طريق الاعتبار بما فيه من القصص والأخبار, أحمد سبحانه وأشكره على جزيل الفضل والإنعام واشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ألوهيته وربوبيته وفي أسمائه وصفاته ليس كمثله شئ وهو السميع البصير وأشهد أن محمدا عبده ورسوله خير من قرأ القرآن وامتثل أحكامه فكان خلقه القرآن صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الكرام وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين أما بعد فأُوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل فهي حياة المسلم وراحته و دوحته في الدنيا وفوزه ونجاته في الأخرى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) .(2) ( وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ )(3)
أيها الصائمون القانتون إن لله ليالي وأياماً وشهوراً فضّلها على سائر الليالي والأيام و الشهور، منها: شهر رمضان، فهو شهر القرآن أيام شهركم تتصرم بالبركات والنفحات ولياليه بالقرآن والمنجاة تُعمر وسهر ه بالخلوات يُعطر , قرآن يُتلى , وآيات تُتدبر , شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ساعاته فرح وأُنسٌ لأنها قُطعت بكلام الرحمن , أطيب كلام وأحلى مزمار فرّق الله فيه بين الحلال والحرام فهو الضياء والنور وبه النجاة من الغرور وفيه شفاء لما في الصدور , من خالفه من الجبابرة قصمه الله ومن ابتغى العلم في غيره أضله الله هو حبل الله المتين ونوره المبين والعروة الوثقى والمعتصم الأوفى وهو المحيط بالقليل والكثير والصغير والكبير ,لا تنقضي عجابئه ولا تتناهى غرائبه لا يحيط بفوائده عند أهل العلم تحديد ولا يخلقه عند أهل التلاوة كثرة الترديد هو الذي أرشد الأولين والآخرين ولما سمعه الجن لم يلبثوا أن ولوا إلى قومهم منذرين ( فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا. يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا ) (4) فكل من آمن به فقد وُفق ومن قال به فقد صدق ومن تمسك به فقد هُدي ومن عمل به فقد فاز وقال تعالى ” إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ” ومن أسباب حفظه في القلوب والمصاحف استدامة تلاوته والمواظبة على دراسته مع القيام بآدابه وشروطه والمحافظة على ما فيه من الأعمال الباطنة والظاهرة.
أيها الصائمون كان جبريل يدارس النبي
القرآن في رمضان، قال ابن القيم كان جبريل عليه الصلاة والسلام يدارسه القرآن في رمضان، وكان إذا لقيه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة، وكان أجـود الناس، وأجود ما يكون في رمضان، يكثر فيـه الصدقة،والإحسان، وتلاوة القرآن والصلاة والذكر، والاعتكاف. وكان يخص رمضان من العبادة ما لا يخص غيره به من الشهور ، حتى إنه كان ليواصل فيه أحياناً ليوفر ساعات ليله ونهاره على وكان عثمان بن عفان رضي الله عنه يختم القرآن كل يوم مرة، وكان بعض السلف يختم في قيام رمضان كل ثلاث ليال، وبعضهم في كل سبع، وبعضهم في كل عشر، فكانوا يقرءون القرآن في الصلاة وفي غيرها،وخرق عثمان رضي الله عنه مصحفين لكثرة قراءته منهما فكان كثير من الصحابة يقرءون في المصاحف ويكرهون أن يخرج يوم ولم ينظروا في المصحف.
ودخل بعض فقهاء مصر على الشافعي رضي الله عنه في السحر وبين يديه مصحف فقال له الشافعي: شغلكم الفكر عن القرآن إني لأصلي العتمة وأضع المصحف بين يدي فما أطبقه حتى أُصبح
أيها الأحبة إن لنا في سلفنا الصالح أسوة حسنة، حيث كانوا إذا أقبل رمضان تركوا سائر الأعمال واعتكفوا على قراءة القرآن وتدبره، وهذا هو هدي النبي ![]()
كان الإمام أحمد إذا أقبل رمضان جلس في بيت الله واعتكف على قراءة القرآن، وكلما مر وقت ذهب وتوضأ ثم رجع إلى القرآن يقرؤه ويتلوه.
يا عبد الله: كان الإمام أحمد يترك فتاواه ومسائله ومجالس العلم ليعكف على كتاب الله، أما الإمام مالك فإنه إذا أقبل رمضان هجر جميع المجالس حتى مجالس الحديث؛ ليعكف على كتاب الله، وهذا الإمام الشافعي عليه رحمة الله كان يختم القرآن في رمضان ستين ختمة. وهذا الإمام الزهري يقول: شهر رمضان شهر قرآن وإطعام طعام لا ثالث, وكان قتادة يختم في كل سبع دائماً، وفي رمضان في كل ثلاث، وفي العشر الأواخر في كل ليلة، وكان الزهري إذا دخل رمضان يفر من قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم ويقبل على تلاوة القرآن من المصحف، وكان سفيان الثوري إذا دخل رمضان ترك جميع العبادة وأقبل على قراءة القرآن. وقال ابن رجب: إنما ورد النهي عن قراءة القرآن في أقل من ثلاث على المداومة على ذلك، فأما في الأوقات المفضلة كشهر رمضان والأماكن المفضلة كمكة لمن دخلها من غير أهلها فيستحب الإكثار فيها من تلاوة القرآن اغتناماً لفضيلة الزمان والمكان، وهو قول أحمد وإسحاق وغيرهما من الأئمة، وعليه يدل عمل غيرهم،
إخوة العقيدة لم يكن من هدي السلف هذّ القرآن هذّ الشعر دون تدبر وفهم، وإنما كانوا يتأثرون بكلام الله عز وجل ويحركون به القلوب. ففي البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله
: { اقرأ علي }، فقلت: أقرأ عليك وعليك أنزل؟! فقال: { إني أحب أن أسمعه من غيري } قال فقرأت سورة النساء حتى إذا بلغت: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاء شَهِيداً قال: { حسبك }، فالتفت فإذا عيناه تذرفان. وعن أبي ذر قال ” قام رسول الله
بنا ليلة فقام بآية يرددها وهي ”إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ” الآية ” ”أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ“
وقام سعيد بن جبير ليلة يردد هذه الآية ” وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ ” وقال بعضهم: إني لأفتتح السورة فيوقفني بعض ما أشهد فيها عن الفراغ منها حتى يطلع الفجر. وقال ابن مسعود ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذا الناس ينامون وبنهاره إذا الناس يفرطون وبحزنه إذا الناس يفرحون وببكائه إذا الناس يضحكون وبصمته إذا الناس يخوضون وبخشوعه إذا الناس يختالون. وينبغي لحامل القرآن أن يكون مستكيناً ليناً ولا ينبغي له أن يكون جافياً ولا ممارياً ولا صياحاً ولا صخاباً ولا حديداً.
وكان بعضهم يقول: آية لا أتفهمها ولا يكون قلبي فيها لا أعد لها ثواباً وحكي عن أبي سليمان الداراني أنه قال: إني لأتلو الآية فأقيم فيها أربع ليال أو خمس ليال ولولا أني أقطع الفكر فيها ما جاوزتها إلى غيرها.
وكان أحد السلف إذا قرأ آية ولم يعلم معناها يبكي ثم يبكي فإذا سُئل قال إن الله يقول وما يعقلها إلا العالمون وأنا لست منهم !!!
وأخرج البيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما نزلت: (أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ) فبكى أهل الصفة حتى جرت دموعهم على خدودهم، فلما سمع رسول الله
حسهم بكى معهم فبكينا ببكائه. قال رسول الله
: { لا يلج النار من بكى من خشية الله } وقد قرأ ابن عمر سورة المطففين حتى بلغ: (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) فبكى حتى خر، وامتنع من قراءة ما بعدها. وعن مزاحم بن زفر قال: صلى بنا سفيان الثوري المغرب فقرأ حتى بلغ: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) بكى حتى انقطعت قراءته، ثم عاد فقرأ الحمد ,وعن إبراهيم بن الأشعث قال: ( سمعت فضيلا يقول ذات ليلة وهو يقرأ سورة محمد، وهو يبكي ويردد هذه الآية: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) وجعل يقول: ونبلو أخباركم، ويردد وتبلوا أخبارنا، إن بلوت أخبارنا فضحتنا وهتكت أستارنا، إنك إن بلوت أخبارنا أهلكتنا وعذبتنا، ويبكي ). وكان مالك بن دينار يقول: ما زرع القرآن في قلوبكم يا أهل القرآن إن القرآن ربيع المؤمن كما أن الغيث ربيع الأرض.
وقال قتادة: لم يجالس أحد هذا القرآن إلا قام بزيادة أو نقصان قال تعالى ( وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ۙ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا ) (5)
ولذلك قال الحسن: والله ما أصبح اليوم عبد يتلو القرآن يؤمن به إلا كثر حزنه وقل فرحه وكثر بكاؤه وقل ضحكه وكثر نصبه وشغله وقلت راحته وبطالته.
وقال وهيب بن الورد نظرنا في هذه الأحاديث والمواعظ فلم نجد شيئاً أرق للقلوب ولا أشد استجلاباً للحزن من قراءة القرآن وتفهمه وتدبره. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم
الحمد لله حمدا كثير طيبا مباركا فيه
أيها الناس ورد الأمر بالبكاء والتباكي عند تلاوة القرآن ولن يحدث هذا إلا بالتدبر والفهم ليحصل الخشوع والخضوع فلا بد يُفرغ العبد قلبه ليفهم ولأجل أن يتأثر العبد بالتلاوة أن يصير بصفة الآية المتلوة فعند الوعيد وتقييد المغفرة بالشروط يتضاءل من خيفته كأنه يكاد يموت وعند التوسع ووعد المغفرة يستبشر كأه يطير من الفرح ,وعند ذكر الله وصفاته وأسمائه يتطأطأ خضوعاً لجلاله واستشعاراً لعظمته ,وعند ذكر الكفار ما يستحيل على الله عز وجل كذكرهم لله عز وجل ولداً وصاحبة يغض صوته ويكسر في باطنه حياء قبح مقالتهم ,وعند وصف الجنة ينبعث بباطنه شوقاً إليها
وعند وصف النار ترتعد فرائصه خوفاً منها ولما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن مسعود ” اقرأ علي قال: فافتتحت سورة النساء فلما بلغت ” فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً ” رأيت عينيه تذرفان بالدمع فقال لي: حسبك الآن ” وهذا لأن مشاهدة تلك الحالة استغرقت قلبه بالكلية.
ولقد كان في الخائفين من خر مغشياً عليه عند آيات الوعيد. مثل عمر رضي الله عنه عندما قرا قوله تعالى فإذا نُقر في الناقور.
____________________________
(1) فصلت :42
(2) آل عمران : 102 .
(3) الزمر :61
(4) الجن :3
(5) الاسراء : 82


