مادمت حيا && للشيخ سعد السبر

الحمد لله الذي تفرد بالجلال، والعظمة والعز والكبرياء والجمال، وأشكره شكر عبدٍ مُعترفٍ بالتقصير عن شكر بعض ما أسداه من الإنعام والإفضال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له ولامثيل ولاند ولا شبيه في الربوبية والأُلوهية والأسماء والصفات ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله – صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الكرام وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد فأُوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل فهي خير ما يُرغب وأفضل ما يُدعى إليه ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولاتموتن إلا وأنتم مسلمون ) ()
أيها الناس : خلق الله الخلق لعبادته ونصب الموازيين ورفع السموات وبسط الأرضين ؛ لتوحيده وإفراده بالعبودية ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) () ومعنى يعبدون يُوحدون ، والعبادة مستغرقة لكل العمر فليس لها زمن ولا وقت بل كل عمرك يا ابن آدم زمان للعبادة وتحقيق التوحيد ( واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ) () قال البخاري: قال سالم: الموت () . قال القرطبي رحمه الله : المراد استمرار العبادة مدة حياته، كما قال العبد الصالح: ” وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا ” () . قال الشنقيطي رحمه الله : هذه الآية الكريمة تدل على أن الإنسان ما دام حيا وله عقل ثابت يميز به، فالعبادة واجبة عليه بحسب طاقته () ، وهكذا قال تعالى عن نبيه عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: {وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا}
عباد الله : صحائف الأعمال مفتوحة كل العمر فليس لها وقت تُطوى فيه ووقت تُفتح فيه وتبسط ، بل كل العمر محل للعمل ، فلا تُحدد بنهاية العام ، ولا بيوم من السنة أو العمر ، وما ينتشر بين الناس في هذه الأيام من رسائل بالتوصية بالعمل الصالح قبل نهاية العام تُخالف قوله تعالى ( واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ) () ، لأن الوصية بالتقوى والتوبة يجب أن تكون مستمرة في كل زمان وعلى كل حال ( وتوبوا إلى الله جميع أيها المؤمنون لعلكم تُفلحون ) () ، فالتوبة وظيفة العمر ، وعمرك ما مضى منه يُمكنك إدراكه بالتوبة مادمت حيا ، فلنتواصى بالتوبة والتقوى كل أعمارنا وأوقاتنا ؛ لتصلح أعمالنا وتزكو أنفسنا .
إخوة العقيدة : إن الله فتح باب التوبة مالم تُغرغر الروح عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: “إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر” رواه الترمذي وابن ماجه .وعن ابن عباس في قوله (إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ) () قال : من عمل السوء فهو جاهل من جهالته عمل السوء ثم يتوبون من قريب قال : في الحياة والصحة . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق علي عن ابن عباس في قوله ثم يتوبون من قريب قال القريب ما بينه وبين أن ينظر إلى ملك الموت . وأخرج ابن جرير عن أبي مجلز قال : لا يزال الرجل في توبة حتى يعاين الملائكة . وأخرج ابن جرير عن محمد بن قيس قال القريب ما لم تنزل به آية من آيات الله أو ينزل به الموت . وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير والبيهقي في الشعب عن الضحاك في الآية قال : كل شيء قبل الموت فهو قريب له التوبة ما بينه وبين أن يعاين ملك الموت فإذا تاب حين ينظر إلى ملك الموت فليس له ذاك . وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن عكرمة في الآية قال : الدنيا كلها قريب والمعاصي كلها جهالة . وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن ثم يتوبون من قريب قال : ما لم يغرغر . وأخرج عبد بن حميد عن ابن عمر في الآية قال : لو غرغر بها – يعني المشرك بالإسلام – لرجوت له خيرا كثيرا . وأخرج ابن جرير عن الحسن قال : بلغني أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ” إن إبليس لما رأى آدم أجوف قال : وعزتك لا أخرج من جوفه ما دام فيه الروح . فقال الله تبارك وتعالى : وعزتي لا أحول بينه وبين التوبة ما دام الروح فيه ” ، وأخرج أحمد وأبو يعلى والضياء عن أنس رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : ” والذي نفسي بيده لو أخطأتم حتى تملأ خطاياكم ما بين السماء والأرض ثم استغفرتم لغفر لكم ) () والذي نفس محمد بيده لو لم تخطئوا لجاء الله بقوم يخطئون ثم يستغفرون فيغفر لهم ”
أيها الأحبة : قدموا في اليسير من الأيام ما يقيكم الأهوال العظام والخطوب الجسام والزلازل والطوام والعذاب الغرام فإن العمر يسير والأجل قصير والزاد قليل والهول جليل والعذاب طويل واليوم مهول ثقيل ،فإنا لله وإنا إليه راجعون على من قطع أيامه في العصيان واستبدل الجنة بالنيران والربح بالخسران وترك العز ورضي بالهوان وعوض عن الزيادة والنقصان ففكر فيما تسمع أيها الإنسان وأنا وأنت وكلنا ذلك الإنسان () ،واعلموا وفقنا الله وإياكم أن العمر يذهب والدنيا تفنى وتخرب والنفس تموت والمرد إلى الحي الذي لا يموت ()
يا مَنْ ذهب عمره في البَطالةْ، ورضيَ من الدنيا بأقبح حالَةْ، معمور الظاهر والباطن مهدوم، يا معاسر العُصاة لا تحتقروا ذنباً وإن صَغُر، فإنّ الحشيش يفتل منه الحَبْل فيخنق الفيل المغتلم، أول الحريق شرارة، يا من يُذنب ولا يتوبُ يا من أعمت قلبَهُ الذنوبُ، يَعِدُ بالتوبة ولا وَعْدَ عُرقوب، إلى متى تتعثر في ظلمة البعادْ وعدْ نفسك بتوبةٍ واعزم وقد حَصَّلْتها.
وَعَدْتَ نفسكَ توبةً … اعِزم وقد حَصَلْتَها ()
——————————————————————————–
()
()
()
()تفسير ابن كثير / دار الفكر – (2 / 682)
()تفسير القرطبي – (10 / 64)
()أضواء البيان – (2 / -325-324)
()
()
()الدر المنثور – (2 / 459)
()الدر المنثور – (7 / 238)
()بستان الواعظين ورياض السامعين – (1 / 37)
()بستان الواعظين ورياض السامعين – (1 / 58)
()المنثور لابن الجوزي – (1 / 12)