ملاحظات على خطاب المتحررين وحلقة الحرية قبل الدين &7 للشيخ سلطان البصيري

اطلعت كما اطلع غيري على خطاب المتحررين الموجه حسب تعبيرهم للمدعي العام بالمملكة ، كما اطلعت على الحلقة التي بُثّت في قناة دليل وكانت بعنوان ( الحرية قبل الدين ) ، وضيفها د. أحمد ن عثمان التويجري ، ولأنه جانب الصواب في بعض الكلام الذي قاله مقررّاً فيه أن الحرية قبل الدين فقد سطّرت تحريراً لبعض المسائل قبل الوقوف على شيء مما ورد في الخطاب أو كلام الدكتور هداه الله :
المسألة الأولى : أن أوّل أمر دعت إليه الرسل أقوامها عبادة الله وحده لا شريك له ، أي الدخول في عبودية الله جلّ وعلا ودينه ، كما قال تعالى : ( ولقد بعثنا في كل أمّة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت .. الآية ) النحل 36 ، وكانت دعوة كل نبي إلى قومه متجهة للتوحيد وليست للحريّة ، فكلهم يقول كما قال الله عنهم : ( اعبدوا الله ما لكم من إله غيره .. الآية ) الأعراف 59-65-73-85 ، وعندما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن قال كما في الحديث الصحيح : ( إنّك ستأتي قوماً أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله وحده لا شريك له ) ، والآيات والأحاديث في بيان أن عبادة الله قبل كل شيء كثيرة ، والمقصود أنهم لم يقولوا ندعوهم إلى الحرية ثم الدين.
المسألة الثانية : أن الدين – أي الإسلام – قد كفل الحرية ، كما جعل لها ضابطاً ، أما كونه كفلها فيشهد له ما قاله عمر بن الخطاب لابن عمرو بن العاص رضي الله عنهما : ( متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً ) ، وأما الضابط فهو ألّا تعود بمخالفة للكتاب والسنة كما قال الله تعالى : ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم .. الآية ) الأحزاب 36 ، والمقصود أن الحرية أمر يُقرّه الإسلام ولكن بشرط عدم مخالفتها للكتاب والسنة ، ومن تبصّر في الإسلام أدرك أن الحرية من مكوّناته ومقاصده.
المسألة الثالثة : ينبغي التفريق بين من دخل في الإسلام ومن لم يدخل في الإسلام عند الكلام عن الحريّة في ضوء الكتاب والسنة ، فمن لم يدخل في الإسلام لا يُكره على الدخول فيه ، وإليه تتجه نصوص عدم الإكراه في الدين ، كقوله تعالى : ( أفأنت تُكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ) يونس 99، وغير ذلك من النصوص ، وحينئذٍ قد تُفرض عليه الجزية حسب تفصيلات في الفقه الإسلامي لذلك.
وأما من دخل في الإسلام فإنه يُؤطر على الالتزام بأحكامه ويُؤخذ على يديه ، وفي التأكيد على هذا المعنى نصوص كثيرة ، منها قول الله تعالى : ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يُحكّموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويُسلموا تسليماً ) النساء 65 ، وقوله تعالى : ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم .. الآية ) الأحزاب 36 ، وقتال أبي بكر رضي الله عنه للمرتدين بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بل إن مشروعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تؤكد على ذلك.
المسألة الرابعة : أن مما يستلزم الكلام عنه عند الكلام عن الحرية الكلام عن مشيئة المرء ؛ هل هو مسيّر في حياته أو مخيّر ؟ ، والصواب أنه ليس بمُسيّر والتخيير الذي عنده نسبي وليس مطلقاً ، لأن له مشيئة تابعة لمشيئة الله تعالى ، كما قال سبحانه : ( وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين ) التكوير 29 ، ومعنى ذلك أن الله سبحانه أعطى المرء عقلاً به يعرف الخير من الشر ، كما قال سبحانه : ( إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً ) الإنسان 3 ، وقال سبحانه : ( وهديناه النجدين ) البلد 10 ، ولكن المرء بمشيئته لا يخرج عن مشيئة الله تعالى ، ومن أراد الاستزادة في هذا الموضوع فليرجع لكتاب ابن القيّم رحمه الله ( شفاء العليل في القضاء والقدر والحكمة والتعليل ).
وعوداً على الخطاب أقول : إن كان من حرّر الخطاب يزعم أنه قانوني ، أو حقوقي كما يحلو لهم التسمية بذلك ( مع تحفظي على هذه التسمية لأن القانون ليس حقوقاً فقط بل هو حقوق وواجبات ) ، فليعلم أنه إنما فهم بأن الحرية ينبغي أن تكون مطلقة ، ليُمارسَ ما يشاء ، ولا ريب أن هذا الفهم مغلوط ، حتى في البلاد التي تنتهج العلمانية كنظام سياسي يُقصى فيه الدين ، وتضرب فيه الديموقراطية أطنابها ، ويؤمها من يريد التحرر من ربقة الإسلام ، لأن قانون البلد المشرب بالعلمانية يقيّد الحريّةَ ، بل ويزيد العرفُ بالتقييد أيضاً.
أما التقييد بالقانون فمثاله كثير في الواقع من فرض أشياء على الناس باسم القانون ، وأما التقييد بالعرف فمثاله ألّا تُلبس ألبسة البحر في العزاء والمراسم ؟
وعليه فلا أحسب من حرّر الخطاب إلا جاهل بدينه ، وجاهل بالحرية نفسها ، ولا يُريد إلا التحرر من كل شيء.
وأما كلام د. أحمد التويجري في حلقة : ( الحرية قبل الدين ) فألخص ملاحظاتي عليه فيما يلي :
أولاً : قوله ( الحرية ليست منضبطة فقط بضوابط الشريعة ، بل منضبطة أيضاً بضوابط العقل وبضوابط المنطق ، يعني لا تحتاج إلى شريعة لأن تعرف أن اعتدائي عليك بالضرب أمر غير مقبول ) انتهى.
فأقول : إن كلامه السابق خَلَطَ فيه بين الحرية والطريق إلى معرفة حسن الأشياء وقبحها ، فالجملة الأولى تخص الحرية ، وقد قدّمت الكلام على موقف الدين منها وأنه كفلها بشرط ألّا تُخالف الكتاب والسنة ، وأما الجملة الثانية فتخص معرفة حسن الأشياء وقبحها ، وقد قدّم في الجملة الأولى بكلمة ( يعني ) ؛ مما يدل على أنه قصد شرح الجملة الأولى.
والطريق إلى معرفة حسن الأشياء وقبحها ليس بالعقل فحسْب كما تقول المعتزلة ومن وافقهم ، وليس بالشرع فحسب كما يقول الأشاعرة ومن وافقهم ، بل بالشرع والعقل ، إذ ليس بينهما تعارض ، وفي هذا ألّف شيخ الإسلام ابن تيمية كتابه ( درء تعارض العقل والنقل ) ، فقول د.أحمد ( لا تحتاج إلى شريعة .. الخ ) لا يصح.
ثانياً : قوله : ( الذي يُقهر ويُحال بينه وبين اختياره في حقيقة الأمر نحن نحول بينه وبين خالقه لأن الله أراد أن يبتليه ويرى صنعه ، فإذا تدخلنا باستبداد عليه أو هيمنة أياً كانت فنحن وقفنا عائقاً وتحقّق هذا الابتلاء ) انتهى.
فأقول : إن هذا الكلام غايته ألّا يؤخذ على أحد ، فالجهاد يُعطّل ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يُعطّل ، والقضاء بشرع الله والحكم بما أنزل يُعطّل ، وأوامر السلطان تُعطّل ، بل وكلّ ما له علاقة بالتربية يُعطّل ؛ وهل ثَمَّ مؤمنٌ عاقلٌ يقول بهذا.
ثالثاً : استشهاده على أن الحرية قبل الدين بأن الرضا شرط في العقود ليس دليلاً له ، بل دليل على أن ما قرره غير صحيح ، لأن الإسلام هو الذي تطلّب الرضا واستلزم أن يكون شرطاً ، وهذا مثال على كونه من مكوّناته وما يقصده.